بل اجتاحت هي كل شيء، ولم تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم
وهكذا استطاع مصطفى أن يخلص الأوطان، من احتلال الغاصب وجشع اليونان؛ ولكن ماذا يفيد جلا الغاصبين، والبلاد واقعة تحت نير السلاطين باسم الدين؟
على رسلك يا مصطفى، إن طريق الدين شائك وعر المسالك فلا تجرح فيه عواطف الأتراك، بل عواطف المسلمين أجمعين. إياك والتعرض للخلفاء، فان للخليفة قوة أربعين من الأولياء. إن المسلمين لابد لهم من إمام، وإن الخلافة ركن من أركان الإسلام. بمثل هذا تعالت الأصوات، من مختلف الجهات، ولكن لمصطفى أذناً صماء، لا تصيخ إلي النداء. هو لا يريد الخلافة، فليكن ما يريد، ثم يضرب الضربة القاصمة، فيطوح بالخليفة في مجاهل الأرض، وتتطاير شظايا عرشه في الفضاء. أما الفقهاء فلهم أن يبدوا ما يحلو لهم من الآراء، وأما الصحف والكتاب، فلهم أن يحكموا هل أخطأ أو أصاب
ترى ماذا كان يكون من أمر الخلافة لو طرحها كمال على بساط البحث، وانتظر فيها قرار المتضلعين من رجال الدين؟ أغلب الظن أنها كانت تسلك الأدوار التي سلكتها من قبل مسألة خلق القرآن في عهد بني العباس، تتناطح حولها الحجج، وتتقارع البراهين، ثم ينتقل التناطح من الحجج إلى الرءوس، والتقارع من البراهين إلى السيوف والتروس، ثم لا ينتهي الأمر، أو ينتهي إلى لا شيء؛ ولكن مصطفى يعرف ذلك، ويعرف بجانب ذلك أن منطق الواقع يغير وجوه الرأي، ويحول اتجاهات الأذهان، ويحمل على التسليم والإذعان. وكأني به جالساً على أحر من الجمر، وأعضاء المجلس الوطني يتداولون الآراء في مسألة الخلافة، حتى إذا نشب الجدل وطال النقاش ساعة من نهار، لوح لهم بحبل المشنقة فصدر القرار
ليت شعري ماذا فعل مصطفى؟ أتراه على عروش الخلفاء، أم أجهز على جريح لا يرجى له الشفاء؟ أهي نزعة من نزعات الألحاد، أم التخلص من عضو دب إليه الفساد؟ للتاريخ وحده أن يحكم؛ غير أني أبرئ من الإلحاد مترجم القرآن، ومعز دين الإسلام، ومرغم الأجانب على احترام الجمعات، وإنما هو النفوذ الديني أسيء استعماله، فوجب استئصاله؛ ذلك النفوذ الذي تغلغل في كل مصلحة، واعترض طريق كل إصلاح، والذي لم يوسم به عصر دون عصر، أو يسلم من شره مصر دون مصر. ذلك الذي جعل مصطفى برماً