في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد لهجت السنة الأثينيين باسم حكيم لا كالحكماء، وفيلسوف لا كالفلاسفة. لا يتفق شكله وزيه مع جلال الحكمة، ولا يتلاءم أصله ونسبه مع عظمة الفلسفة. فقد كان أفطس الأنف، مرسل الشعر في غير انتظام، حافي القدمين، حاسر الرأس مرتديا كساء غليظا. أبوه نقاش وأمه قابلة: مهنتان ليس لهما من الشرف نصيب كبير وهو مع هذا يناقض أهل أثينا ويبين خطأهم، ويسفه أحلامهم دون أن يدعي الإتيان بجديد، أو تعليم الناس ما لم يعرفوه. أجل لم يك هذا الفيلسوف رئيس مدرسة يجتمع فيها الطلاب ولا صاحب نظرية محدودة يتدارسها الأتباع والتلاميذ. بل كان يبعث حكمته في الأسواق والطرقات ويلقى درسه أمام الحوانيت وفي ملعب الشبان. وما كان هذا الدرس وتلك الحكمة إلا إعلانه دائماً إنه لا يعرف شيئاً وترديده لهذه الجملة المأثورة:(أعرف نفسك بنفسك). ذلكم الحكيم الغريب شكله، القبيح منظره، الشاذة تعاليمه وطريقته هو سقراط الذي نهج بالفلسفة نهجاً جديداً، وكان على رأس طوائف فلسفية متعددة ومتباينة
بين فلاسفة الأغريق ثلاث أسماء لا يكاد الإنسان يذكر واحدا منها إلا وحضر بذهنه الآخرون. ومن ذا الذي يلفظ أسم أفلاطون دون أن يخطر بباله أنه كان تلميذا لسقراط وأستاذا لأرسطو؟ أو من ذا الذي يتكلم عن سقراط ولا يلحظ تلميذه أفلاطون وتلميذ تلميذه أرسطو؟ وفي الحق أن هؤلاء الحكماء الثلاثة يكمل بعضهم بعضا: تضافروا على تكوين نظرية مشتركة نشأت بين يدي الأول، وترعرعت لدى الثاني، وأخذت شكلها الكامل عند الأخير. فكلهم أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض وعني بالإنسان في تفكيره وسلوكه أكثر من عنايته بالشؤون الطبيعية في نظامها وتقلبها. وكلهم بحث عن الفكرة ' في طريق تكونها وأصل نشأتها ودرجة وجودها وبذا كانوا جميعاً أساتذة (الفلسفة الفكرية) التي لعبت دوراً هاماً في تاريخ الدراسات النظرية والتي لا تزال عماد البحث العقلي إلى اليوم
لم يقف نفوذ سقراط عند الشعبة الأفلاطونية والأرسطوية، بل تعداهما إلى مدارس أخرى كانت من أشد الناس عداءاً لأفلاطون وأرسطو. فالميجاريك تلاميذ أقليد الميجاري والسينيك أتباع أنطستين يصعدون إلى سقراط وان كانوا من أول من خرج عن المنطق،