حدثني صديق لي وهو في مقتبل عمره، وأول عهده بالوظيفة، قال:
في صباح أحد الأيام، وأنا متهيئ للخروج إلى عملي، إذا بباب غرفتي يطرق، وإذا بالطارق فتى جميل المحيا، يقظ الملامح، يحمل على يديه سفطاً مستطيل الشكل، كبير الحجم، فما وقع نظري على الفتى والسفط بين يديه حتى تولاني الانقباض، لأنني عرفته من هو؟ وأين يشتغل
تمتم الفتى: لقد عاد عمي الشيخ من دمشق مساء أمس وهو يهديك تحياته، وقد أرسلني بهذا السفط هديته من دمشق إليك
ولكن عقلي كان قد اهتدى إلى أني موظف، وأن لصاحب هذه الهدية مصالح كثيرة عندي يهمه قضاؤها
فبادرت الفتى بتؤدة: ما هذا؟ ليس من الضروري. . . . له مني الشكر. . . أعد السفط إليه. . . ليس من الضروري. . . ولكنه قاطعني بأدب: لقد بعث به الشيخ إليك. . وهو هديته من دمشق. . . وسيغضب علي إن رجعت به
قلت بلهجة الآمر: أرجعه. . . سوف لا آخذه
عاد الفتى بالسفط وهو لا يصدق أني رفضت قبوله؛ وعدت فأغلقت علي باب غرفتي أفكر في الذي صنعت: لولا أنه صاحب حاجة عندي لما خطرت هذه الهدية له على بال ولما فكر في لحظة، إذ لا صداقة بيني وبينه، وأنا لا أراه إلا في الدائرة حين يريدني في أمر رسمي، أو في الطريق فنتبادل التحية من بعيد، وفوق ذلك فهو من التجار الذين يحاسبون على السحتوت والقطمير، والذين يعطون القرش ليستردوه قرشين؛ وهكذا كان الظاهر محاطاً كله بالريب فلم يدخل في نفسي أن هدية الشيخ منزهة عن الغرض
وبينا أنا على هذه الحال، إذ أرى الشيخ من نافذة غرفتي قادماً إلي، فأسرعت وفتحت له الباب:
أهلاً وسهلاً بحضرة الشيخ، الحمد لله على سلامتك، تفضل. . . جلس فإذا به قد تجاوز الخامسة والخمسين، ولكنه لا يزال محتفظاً بقوته ونشاطه، قد تدلت من ذقنه لحية كبيرة