عصر الإحياء أو إحياء العلوم من أعظم عصور التاريخ الأوربي؛ وهو بلا ريب مطلع النور والعظمة في حياة أوربا الحديثة وفي تكوينها السياسي والفكري الاجتماعي؛ وفي معترك الإحياء الساطع تذوب ظلمات العصور الوسطى التي خيمت على أوربا منذ سقوط الدولة الرومانية، ويفتر ليلها الطويل عن حياة جديدة تسرى إلى جنبات القارة القديمة، فتلقي من حولها غمر الماضي بقوة، وتستقبل عصوراً جديدة من القوة والعظمة والسيادة في جميع مناحي الحياة
وإنا لنشعر ونحن نستعرض تاريخ الإحياء أننا لا نتلو تاريخ أمم أو شعوب معينة، وإنما نتلو صفحة من أنبل صفحات الإنسانية تبهرنا بما حوت من المظاهر والمعاني السامية للعبقرية البشرية. ولقد كان تراث الإحياء وما يزال تراث الإنسانية كلها، ذلك أن ثمرات التفكير البشري هي ملك الإنسانية في كل زمان ومكان؛ ولم يكن تاريخ الإحياء مدى قرن ونصف في معظم الدول الأوربية سوى تاريخ العلوم والفنون والآداب التي تفتحت في ذلك العصر كما تتفتح الأزهار، والتي بثها إلى ظلمات العصور الوسطى أرواح وأذهان وعقول ارتفعت فوق العصور والمجتمعات التي ازدهرت بها، وسمت بمبادئها ومثلها كما سمت بعبقريتها
ولقد كتب تاريخ الإحياء مدى القرون وما زال يكتب في كل عصر؛ ولكنه يتخذ دائماً طابعه القومي أو المحلي، وقلما يكتب من الناحية الإنسانية المحضة؛ وانك لتشعر حتى فيما يكتب من الناحية الإنسانية أن العوامل القومية والمحلية تتبوأ دائما مكانتها وتغشى فيه كل نزعة أخرى؛ وكثيراً ما تساءلت وأنا استعرض هذه الصفحة الباهرة من تاريخ الإنسانية، كيف يغفل مؤرخو الغرب حين يكتبون تاريخ الإحياء عن استعراض صفحة أخرى من تاريخ الإنسانية لا تقل عن صفحة الإحياء قوة وجمالا وروعة هي الحضارة العربية الإسلامية، وما كان لها من اثر بارز في بعث عصر الإحياء الأوربي؟
والحقيقة أن هذه الناحية من تاريخ عصر الإحياء كثيرا ما تغمط حقها وتنكر علائقها وآثارها في بعثه وتكوينه. بيد أنها تستحق منا نحن الذين يفهمونها ويقدرونها عناية خاصة؛