وليس يكفي أن نكتب تاريخ الحضارة الإسلامية، بل يجب نعالج آثارها في تكوين مختلف المدنيات والحركات العقلية الأخرى؛ ولقد كان الإحياء الأوربي حركة عقلية عظيمة ومطلع حضارة جديدة رائعة، وكان لحضارة الغرب الإسلامي أثرها في بعث هذه الحركة، فمن واجبنا أن نستقصي هذا الأثر وأن نعرضه إلى جانب ما يعرض لنا من تطور حركة الإحياء الأوربي
ومن الصعب أن نحاول استعراض هذا الأثر في مقال أو فصل، ولكنا نحاول فقط أن نلم ببعض أطرافه العامة؛ وأخص ما يبدو هذا الأثر في النواحي الفكرية والاجتماعية من عصر الإحياء؛ ونلاحظ أن طوالع الإحياء ظهرت بادئ بدء في إيطاليا وبدت في الشعر بوجه خاص، وحمل لواءها الأول شعراء عظام مثل دانتي وبترارك، حاولوا أن يعيدوا مجد الشعر الروماني القديم؛ ولم تكن هذه النهضة الشعرية الرائعة رغم اتجاهها إلى مثل فرجيل عميد الشعر الروماني خالية من تأثير المثل الشعرية في غرب أوربا. ذلك أن النهضة الشعرية التي ازدهرت قبل ذلك بنحو قرن في بروفانس (جنوب فرنسا) والتي كانت حركة (التروبادور) الأدبية في الشعر والقصص من أقوى مظاهرها، كانت قد أحدثت آثارها في الحركة الأدبية في شمال إيطاليا حيث بزغ فجر الإحياء؛ ولم يكن شعر دانتي بعيداً عن التأثر بعوامل الشعر البروفنسي ووحيه، بل لم يكن أسلوب دانتي نفسه بعيداً عن التأثر بالأساليب البروفنسية، ويرى علماء اللغة فوق ذلك أن اللغة الإيطالية الحديثة والتي وضعت أسسها في عصر الإحياء قد تأثرت في تكوينها إلى حد كبير بالروح والتراكيب البروفنسية القديمة؛ ويشيد دانتي نفسه في بعض قصائده الكبرى بعبقرية زعماء الشعر البروفنسي ومثلهم الشعرية، ويرى في تيبول ملك نافار مثلاً أعلى للشاعر؛ فهذه الظواهر والعوامل كلها تدلل على آثار النهضة الشعرية الغربية في شعر الإحياء
هذا ومن جهة أخرى فقد كان الشعر البروفنسي ذاته عرضة لمؤثرات قوية، من الجنوب فيما وراء البرنيه. وكانت الحضارة الإسلامية في الأندلس تنفث آثارها منذ القرن التاسع في شمال أسبانيا وفي غاليس (جنوب فرنسا)، وكان أثرها بالأخص قوياً واضحاً في بروفانس التي كانت مركز الحركة الأدبية في الجنوب منذ القرن العاشر؛ وكانت بروفانس ذاتها مدى حين مستقراً لبعض المستعمرات العربية الغازية التي حملت إلى تلك الأنحاء