مجال العبقرية هو السريرة الإنسانية حيث أرادت الإصلاح، ومتى أرادته. . .
فهو المجال الذي منه يبزغ وفيه تعمل، وعليه تعتمد في الإصلاح، وبه تناط معجزاتها الأدبية، فالعبقرية حين تتصدى لإصلاح البشر إنما تعمد إلى تغيير سرائرهم فتغير إحساسهم وتفكيرهم ونظرات بعضهم بعضاً لبعض، ونحو الحياة عامة، والوجود بصور أعم، فإذا أفرغت العبقرية قواها في السرائر الإنسانية التي تتصل بها غيرتها، فتغيرت طوعاً لذلك الاجتماعية وكل ما فيها من نظم.
وبهذا المقياس وحده يقاس أثر العبقرية، وعلى هذا النحو ينبغي أن يمتحن إعجازها الأدبي، إذ أن مناط هذا الإعجاز ما في العبقرية من قوة دافعة إذا مست السرائر الإنسانية جاشت فيها بواعث الحياة وبواعث الواجب وبواعث الشعور وبواعث التفكير وكل ما ركب في البنية الإنسانية من قوى الوعي والحركة.
ومن طلب الإعجاز من العبقرية في غير هذا المجال فهو جاهل بمعنى الإيجاز، ومعنى العبقرية، ومعنى الحياة الإنسانية، وحدود الطاقة البشرية ومكان الإنسان في الوجود. وهو كمن لا يبحث عن الماء إلا في السراب، فإذا لم يظفر به - وما هو بظافر - كفر بالماء والسراب جميعاً. ولو تدبر الأمر لعرف أنه هو الذي دفع بنفسه في مهاوي الضلال بسوء افتراضه ومنهجه وحكمه، ولو فطن إلى أنه يكلف الأشياء ضد طباعها لما زاغ وما طغي.
ومن هنا يتبين الفرق بين منهاج العباقرة ومنهاج غيرهم في إصلاح البشر.
فالعبقري يلجأ أولاً إلى إصلاح السرائر الإنسانية، فإذا صلحت صلح بصلاحها ما يشكو منه المجتمع من أدواء، أو هان على الأقل إصلاح هذه الأدواء أو تخفيف وقعها على النفوس.
وغير العبقري يلجأ إلى إصلاح ما يحيط بالناس، ويحاول أن يوجد توازناً بين القوى المختلفة في المجتمع حتى لا تثقل بعض جوانبه ويطيش بعضها فيتزعزع بنيانه وتنحل ضوابطه.
العبقري يبدأ الإصلاح من الداخل فيندفع إلى الخارج، وغير العبقري يبدأ الإصلاح من