حينما قيل لي في وزارة المعارف: إنك ممن اختيروا لانتدابهم للتدريس في مدارس العراق، أحسست أن واجباً يناديني ويطلب التلبية مهما كانت فجأة النقلة ووعثاء السفر ولوعة الفرقة للأهل والوطن. . . تحقيقاً للثقة العراقية في السمعة المصرية التي رفع الله ذكرها في الشرق العربي الإسلامي، ووفاء لناشئة العراق ببعض ما لأجدادهم على العقلية العربية العامة من دين المجد والدين والعلم. . . وإيغالا بالجسم في صميم الشرق. . . وملأ للنفس من روحه الذي أومن بسره وسحره. . . وتوثيقا للعلائق بين البلدان العربية التي ما يبزغ فجر يوم جديد إلا وفيه أمل مشرق بوحدتها التي يرسم القلم الأعلى حدودها، وينسج الزمان بنودها، ويصنع جنودها.
وانطلق الجسم من حدود الأرض التي له فيها تاريخ وأطوار. . . إلى الأرض التي للروح والعقل فيها أشواق وأوطار! فقد عاشا في ميراثها، وقبسا من هداها للجنان واللسان، واعتز بفتوح أقلامها وسيوفها، فهما منها على غير نكرً.
واستدبرت السفينة شاطئ الوطن الذي في ترابه أبي، وعلى ترابه أمي، فأحسست شعور الانفصال له وقدة على كبدي! وصارت الفلك واحتواها الماء الذي قامت على عبريه بواكير الحضارات، وذابت في عبابه دولات، فقرأناه ككلمة خالدة في التاريخ، وعبرناه كقطرة في محيط الطبيعة.
وأقبل الليل ونحن على موج نرى جهاد السفينة فيه، والتقاء الظلام به، وإشراق النجوم عليه، فإذا القلب خافق صريع بسحر هذه الأكوان الثلاثة التي في كل منها محراب لعبادة الجمال الأعلى.
وتنفس الصبح على صفحة البحر فإذا لون من بهجة الحياة يشيع في النفس فتود لو أن الفلك والفلك وقفا فلا يريمان! ولاح حاجب الشمس من صوب فلسطين الثائرة ضد البطش والدس، فإذا بالعيون تشخص والخيال يطوف في بطون الوديان وقنن الجبال، فلا يرى إلا ثائراً رابضاً وراء صخرة، أو طائراً يقذف (بالبيض) مصارع، أو شلوا في فم ذئب، أو عيناً في منقار طير، أو طراداً عنيفاً بين قوة جبارة تعتمد على حذق للجديد من أساليب