ارتقت الخطابة في عهد علي بن أبي طالب ارتقاء واضحاً وصارت سلاحاً قوياً يلجأ إليه الخليفة وخصمه؛ يثيران بها الأنصار، ويحفزان النفوس إلى الغارة والحروب؛ ولقد خلف لنا هذا العصر قدراً كبيراً من الخطب، لم يؤثر مثله طول عهد الخلفاء الراشدين؛ وليس ذلك بعجيب؛ فإن المسلمين لم يقفوا موقفاً يحتاج إلى كثرة الخطابة، كهذا الموقف الذي وقفوه أيام علي ومعاوية.
لم يقف المسلمون قبل اليوم يحارب بعضهم بعضاً، وإنما كانوا يجتمعون لحرب المشركين، ونشر لواء الدين، تملأ قلوبهم الروح المعنوية، والأيمان القوي المتين، وتحدوهم العقيدة أن لهم إحدى الحسنيين؛ فكان لهم من أنفسهم وازع أي وازع؛ قلبهم يدفعهم، وعقيدتهم تقودهم؛ فلم يكونوا يوم خرجوا لمحاربة الفرس والروم في حاجة إلى إطالة القول والإطناب في الخطابة لأن الدين الجديد وعقيدتهم في وجوب نشره كان يحفزهم إلى الجهاد، ويملأ قلوبهم ثقة بالنصر معتقدين أن الله يمدهم بروح من عنده، وأن المجاهد منهم تنتظره جنات وعيون، أو نعيم الدنيا وما يغنمه من العدو، وما يناله من الفيء.
أما اليوم فهم مدعوون لحرب قوم لا يشركون بالله، ولا ينكرون محمداً، بل هم على دينهم وعقيدتهم، ومن جنسهم وملتهم ولذلك كان الموقف الجديد في حاجة إلى خطيب يبرر حرب المسلم أخاه المسلم وقتل العربي بني قومه العرب، واحتاج قادة الفريقين وزعمائهم إلى الخطابة يقوون بها الروح المعنوية، ويخلقون في نفوسهم الأيمان بأنهم يحاربون من اجل الحق والدين الذي آمنوا به، وبأن جهادهم ليس إلا لتمكين الاسلام، وتنفيذ أحكامه، وكان المتحاربون في حاجة إلى هذه الروح حتى تشتد سواعدهم على قتل إخوانهم وذوي قرباهم، وكان الزعماء يلجئون إلى الخطابة كثيراً، حتى لا تفتر هذه الروح وتضعف؛ وكثرة تكرار القول تدخل في النفوس توهم صدقه وصحته، وذلك هو السر في فكرة ما ورثناه من خطب هذا العصر كثرة لم نعهدها في خطب الخلفاء حينما كانوا يحضون المسلمين على حرب المشركين.