ولكن الذي بين يدينا من خطب علي وصحبه، أكثر من ما ورد لمعاوية وأركان حربه، ويمكن أن نرجع ذلك إلى أن كثيراً من آثار معاوية وأنصاره، قد امتدت إليه يد النسيان والضياع، بعد سقوط دولتهم، وتشتت شمل معاونيها، فإن الدولة الأموية بعد سقوطها لم يحاول أنصارها يوماً رفع رؤوسهم ولا محاولة رجوعها، ففقد بفقدانها الكثير من آثار خلفاءها؛ أما العلويوين فمع أنهم كانوا يحاربون ويقتلون، ويلاقون من الحياة الشدة والعناء، كان لهم في كل مكان الأنصار والمروجون لدعوتهم والساعون إلى إقامة خلافتهم، وقد نجحوا في كثير من الأحيان فكان من الضروري لهم أن يحفظوا كلام إمامهم، وأن يتناقلوا أحاديثه وخطبه.
ويمكن أن نرجعه إلى أن كثيراً من الخطب التي نسبت إلى علي وضعت بعد عصره وضعاً، وأضيفت إليه من غير أن يكون قد قالها، ولا نريد الآن أن نمحص هذه الخطب، وأن نبين ما وضع منها وما لم يوضع، ولكن نقرر أن كثيراً من هذه الخطب الصق به إلصاقاً؛ فكان سبب ما نراه من كثرة كلام علي كثرة يقل أمامها ما قاله معاوية؛ هذا إلى أنه مما لاشك فيه أن علياً كان أبين من معاوية قولا وافصح منه لساناً.
ويمكن أن يكون السبب قلة حاجة معاوية إلى الخطابة بالنسبة إلى علي، فلقد كانت الروح المعنوية في نفوس أهل الشام أقوى وأشد منها في نفوس أهل العراق، لأن معاوية قد ألقى في روعهم أنهم إنما يقتصون لخليفة قتل مظلوماً، ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً؛ ومن أولى بالدفاع عن حق عثمان من معاوية؟ وكان مكر معاوية ودهاؤه حين يقول: إننا لا نريد منهم سوى قتلة عثمان، فليدفعوهم إلينا ونحن نبايع صاحبهم - يحرك الشاميين إلى الأخذ بثأر عثمان، فلا حاجة إلى كثرة الخطابة وتكرير القول، هذا إلى أن أهل الشام كانوا أطوع لمعاوية من أهل العراق لعلي. فمعاوية وأبوه وأخوه من قوادهم يوم حارب المسلمون في الشام، وإلى أن الشاميين كانوا في موقف المدافعين عن بلادهم، الذائدين عن حياضهم وعن آبائهم ونسائهم، وهذا مما يقوي في نفوسهم روح الجهاد ويدفعهم إلى الحرب والقتال.
وهناك سبب آخر هام دعا إلى كثرة خطابة علي وصحبه، فلقد كان الخلاف يمشي إلى قلوب أنصاره، وكان المخالفون يبينون رأيهم بالخطابة فكان من الضروري أن يقف بينهم