حمل نيتشه في الغزوة الأولى على الكاتب الألماني (دافيد ستراوس) وعلى كتابه الذي أخرجه في درس الدين والمدينة، والإيمان قديمه وحديثه. وقد يحتدم في نقده للجزء الثاني من الكتاب حيث يعلن (ستراوس) المثل الأعلى الذي يجده خير ما وجده لأبناء الأجيال القادمة. ونيتشه يصب سوط نقده على الرجل الذي لم يعل ولم يسفل، بل وقف وسطاً قانعاً بما آل إليه، يأخذ من كل علم بحزمة، ويقنع من كل فن بضمة، ويعتقد بأنه بلغ الدرجة القصوى من الكمال الإنساني
لا يؤمن (ستراوس) بجنة المسيح، ولا يرتاح لوجود الله، وإنما يعمل على أن يوحي إلى أنصاره أن العالم ما هو إلا رحى ميكانيكية لا تهدأ عن دورانها، وما على الإنسان إلا أن يسلم من الوقوع تحت ثفالها. وهو في الأخلاق كذلك، فلا يبشر بمذهب خطر، ولا يجرؤ على أن يطلب إلى الفرد أن يستخدم مواهبه وأن يكون كما تريد نفسه في الوجود. وإنما يقول هذه الجملة بعد تثبته من اختلاف الناس في حظوظهم ومواهبهم، (لا تنس أبداً أيها الإنسان أن الآخرين هم أناس مثلك، لهم نفس حاجاتك وذات مآربك)
يحسب كل ما تجاوز حد الفهم الوسط قبيحاً، لأن العبقرية تتجلى في التوسط لا في التطرف. فالنشيد التاسع (لبتهوفن) لا يقع موقع الرضا إلا عند من يرون الغريب عبقرية، والخروج عن المألوف والوزن سمواً. وقد ظن بنفسه أنه قهر (شوبنهاور) ببرهانه الركيك الذي رآه (إذا كان الوجود قبيحاً، فالعقل الذي أوجده هو قبيح أيضاً، فالمتشائم إذن هو مفكر قبيح، والوجود هو حسن وجميل!. . .)
إن ستراوس في نظر نيتشه هو مثال العقل المتوسط الذي يدعى معرفة كل شيء، ويريد