بفرض سلطته على الوجود. هو مفكر هياب لا يبلغ بفكره إلا منتصف الطريق، ولا يستطيع أن يقصد نهايته. إنه متفائل يغلق عينيه عن الآلام الضرورية للبشر خوفاً ورهبة. وهو مفكر يدعوا الناس إلى حياة قانعة خانعة، وبدلاً من أن يكرم رجال العبقرية يعمل على معاكستهم لأنهم - بزعمه - خالفوا نظامه ومثله الأعلى باختراقهم حدود النبوغ المتوسط
الغزوة الثانية:
وتصدى نيتشه في تأملاته الثانية للتاريخ، وهو لا يجابه رجلاً معلوماً أو طائفة مشهورة، وإنما ينازل مذهباً حديثاً يهم بأن يشيع ويطبع الحضارة العصرية بطابعه، فالتاريخ هو خير راع للحضارة وناقل لها ما ظل يعمل على خدمة الحياة، وبحث الناس على نشدان الحياة السامية، فالتاريخ الموقوف على نشر المآثر يمثل للإنسان آثار الأقدمين الرائعة ويبعث في روحه الأمل الملتهب والعزم المتأجج لإكمال معنى هذه الآثار، ويعمل على رفع مثل الإنسانية الأعلى ناقضاً من قلبه التلهي بحب الحاضر والاستسلام لملذاته. أما التاريخ التقليدي الذي يوحي للإنسان احترام الأشياء الفانية، وحب الآثار الماضية، فهو خير حقير يحمل أصحابه على الرضا بالحاضر الممقوت، يسكرهم بذلك الماضي الذهبي البعيد ويسكب في وجودهم القاتم المستكين مخدراً شعرياً يبعثهم على الركود. وهنالك التاريخ الناقد المحاكم، يعرض الماضي كله على محكمة العقل ويبحث فيه ثم ينفيه، لأن كل ما كان من حقه أن يزول. - إن مثل هذا التاريخ هو سلاح محمود عند من أثقلت ظهورهم أعباء الماضي الثقيل، وهم يريدون أن يطرحوها عنهم ويمشوا قدماً إلى ما خطت لهم الحياة
ولقد يستحيل التاريخ إلى قوة غاشمة سيئة حين ينفصل في طريقه عن الحياة، وحين يود أن يفرض مذهباً خاصاً بعيداً عن مذاهبها، إنه يصبح رسول موت لا رسول حياة. ينشئ من الإنسان مجموعة محشوة علوماً ومعارف. ويقتل فيه القوة التي تسوقه إلى العمل. . . إنه مجموعة أثرية لاحظ فيها لسطر من سطور العمل. صاحبها ضعفت شخصيته، ونشأ في تفكيره عالة على غيره، وتعلم أن التاريخ يجب أن يتلقنه تلقيناً، وألا يضعه بنفسه. على أن المؤرخ الحقيقي الذي ينبغي لمثله أن يسطر التاريخ هو من يقف تجاه المسألة التي يدرسها وقفة الخلي، ويعمل دائباً على تشييد بناية الحاضر. رجل التجارب والسمو هو الذي يسطر التاريخ