وللتاريخ وجهة ثانية رائعة يستخلصها نيتشه: هي أن التاريخ يكرم من التفاؤل ما كان محفوفاً بالكدر والخطر. ويحترم الميول الفظة ويعبد الظفر. يعتقد المؤرخ أنه يرى في الحركة الإنسانية أثراً لا أعلم من أي سام منحدره. يجهد العقل ليدرك أنى بدأت هذه الحركة وأين يجب أن تنتهي؟ والإنسان لم يكن عظيماً إلا حين كان يشن الغارة على القدر ويعلن الحرب على القضاء الأهوج، ولكنه يفعل ذلك دون أن يخرج من نفسه
ليس التاريخ الحقيقي بذلك التاريخ الذي يأتي على كل شيء وإنما هو تاريخ أبناء العبقرية، وسيأتي عصر تتبدل فيه صورة هذه الحركات التي ألف التاريخ تسجيلها. وسترسم هذه الصورة بصورة أدنى إلى الحقيقة، فلا يكتب التاريخ بعمومه وخصوصه، وإنما يقصر فيه على رجال العبقرية الذين أثروا في العالم؛ هم لا يأتون ويتعاقبون حسب شريعة تاريخية، ولكنهم يعيشون وراء الزمن! يمثل وجودهم المتصل المتماسك معبراً ترابطت أجزاؤه واستمكنت عقده فوق الأمواج العاصفة. ولنعمم هذا التاريخ الذي يرسم هذه الصورة ويخرج هذا المثل! وهذه هي جمهورية العباقرة التي تحدث عنها (شوبنهاور). عبقري ينادي عبقرياً في أثناء العصور وأهضام الأجيال. ووظيفة التاريخ أن يجمع شتاتهم، ويدني بعضهم من بعض، وأن يهيئ - في كل مهلة - ولادة جديدة لعبقري جديد. إذ ليست غاية الإنسانية من سيرها ذلك الغرض الذي تزحف إليه وإنما غايتها تتمثل في النماذج الكاملة التي تخرجها وتنشئها في الوجود
الغزوة الثالثة:
ولم يقف الأمر عند تهديم العمارة القديمة وتعاليمها المخطرة. فهو يقصد إلى تشييد عمارة المستقبل على دعائم جديدة، فتحرى عن عباقرة أحياء يستطيعون أن يذهبوا بالشباب إلى هذه العمارة وإلى هدف جديد، ينزع عنهم هذا التفاؤل المخدر ويعرضهم أمام أنفسهم مجردين، وسعى إلى أن يرى له معلمين يساعدونه على كشف نفسه ويعرفونه بنفسه؛ من أين نشأت وإلى أين تذهب؟
وقع - أو شاءت المصادفات - أن يقع نيتشه مصادفة على كتاب شوبنهاور (العالم إرادة وتمثيل) وما كان نيتشه ليقدر أن هذا الكتاب سيقلب كل أطوار حياته، ويترك ثورة مستعرة في نفسه، ثم تشتعل هذه الثورة وتزيدها الأيام ضراماً، فلا تهدأ إلا بعد أن تأكل نفسها،