كم قَتيلٍ كما قُتِلْتُ شهيدِ ... بياضِ الطُّلى وورْد الخدود
فقد ابتدأها المتنبي بالنسيب على عادة الشعراء، وتدله في ذلك النسيب كل التدله، وقتل نفسه فيه من فرط الصبابة والوجد، ثم ذكر أيام الصبا والجهل وحنَّ إليها، وتفنن في وصف الحسان اللاتي نسب بهن أيما تفنن.
ولم يكفه ذلك التدله في النسيب، والتفنن في وصف النساء، بل عمد إلى الخمر ينسب بها أيضاً، ويتدله فيها بأكثر مما تدله في نسيبه.
ولا شك أن هذا الأسلوب في النسيب ووصف الخمر، لا يتفق مع ذلك الأسلوب الذي ينسب إليه في دعوى النبوة، ولا يمكن أن يحصل هذا وذاك من شخص واحد، لاختلاف نزعتهما، وتباين المشارب فيهما، واتجاه كل منهما إلى غاية تخالف الأخرى، فهو فيما ينسب إليه في دعوى النبوة رجل جد وصلاح، مبعوث إلى هذه الأمة الضالة المضلة، ويريد أن يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً؛ وهو في قرآنه يدعو إلى الأيمان ويحارب الإلحاد، ولكنه في شعره هازل خليع، يدعو إلى الفسق والفجور، وينغمس في حمأة الضلال، ويبلغ من أمره أن يستهتر بالأيمان والتوحيد إلى هذا الحد قي قوله:
يترشفن من فَمي رَشَفاتٍ ... هُنَّ فيه أحلى من التوحيد
وهذا البيت يذكر فيما يؤخذ على المتنبي من الإلحاد في الدين فكيف يتفق أن يأتي في شعره وهو في عهد يدعو فيه إلى التوحيد ويحارب الإلحاد ويزعم فيه أنه نبي مرسل؟
ثم يبلغ أيضاً من أمره عندما أخذ في وصف الخمر أن يقول فيها هذا القول:
كلُّ شيء من الدماءِ حرامٌ ... شُرْبهُ ما خلا دم العنقود
فأي نبي هذا الذي يحلل الحرام ويحرم الحلال؟ وأي ضلال يحاربه وهو يدعو إلى هذا الضلال؟