(كان المرج واسعاً والماء صافياً نيراً، والعشب أخضر ملتفاً، يغرى بالرعي سارح السوائم. وقطيع البقر يجرى ههنا وههنا طاعماً من الكلأ، شارباً من الماء، موقناً أنه نامت عنه المقادير
كان ذلك كذلك، حين جاء أول إنسان، وقاد أول ثور ليضع على عنقه النير، ثم أجرَّه المحراث وشق به الأرض).
هذا ما قاله الثور الأسود والزبد يسيل من شدقيه ولا يكاد يستطيع أخذ أنفاسه، حين وقف تحت الشجرة إلى جانب الثور الأبلق لينالا علفهما ثم يعودا يحملان النير.
ولم تكن ذكريات الحرية الأولى التي أفضها على صاحبه لتخفف مما يعانيه هو. بل احمرت عيناه، ولوَّح بقرنيه في الهواء كأنما يغالب ما يدفعه إلى أن يفتك بهذا الحراث الغشوم. ولم يكن قد وضع رأسه في المذود ساعة استعاد ذكريات ماضيه الحر، كلا ولا وضع رأسه بعدها. على حين كان صاحبه يأكل التبن أكلاً لمَّا غير مبال بما يخالطه من زبد يسيل من شدقيه. فقال الأسود:
أنت يا صاحبي هادئ لم تثر في نفسك ذكريات الحرية ما قد أثارته في نفسي حتى صدتني عن الطعام. فلم يرفع الأبلق رأسه من المذود المشترك، بل مال عليه بصفحة وجهه يقول ساخراً: هيه هيه أيها المغرور!! لعلك ابن بقرة فيلسوفة قصت عليك ما حفا به تاريخنا في القديم من سعادة كخيال الأساطير. وهب هذا صحيحاً فما أنت فاعل؟ يجب أن تسلم أيها الخيالي بأن عنقك هذا القوى الغليظ لم يغلق هكذا إلا للنير.
فضرب الأسود بحافره الأرض حفاظاً وغيرة، ثم خار خورة مكتومة قال على أثرها:
- أنت يا صاحبي مظلم الغريزة مخطئ الإلهام؛ فأعناقنا لم يبد هكذا إلا لأن جدَّنا الأول حمل النير يوم قاده الطاغية من مرجه الجميل فغلظ عنقه شيئاً ورثه ابنه من بعده. ثم ما زال هذا الميراث السيئ يظهر أكثر وضوحاً على تعاقب الأجيال حتى خلقت أنا وأنت على نحو ما ترى. فتوارث العيوب وإقامة الأجيال على البغيض من أكبر البلايا التي تمنى