تصفح المجلد الثاني من كتاب (وحي الرسالة) للأستاذ الزيات، وقف عند الصفحة الخامسة والأربعين بعد الثلاثمائة، وأقرأ ما جاء بهذه الصفحة تحت هذا العنوان:(أرواح وأشباح).
(على الضفة الشجراء من مصيف المنصورة عرفت علي محمود طه، وعلى هذه الضفة الخضراء من مربعها قرأت (أرواح وأشباح)، وكان بين اللقية الأولى للصديق وبين القراءة الأخيرة للشاعر إحدى وعشرون سنة.
كان حين عرفيه إبان شبابه، وكنت حين عرفني في عنفوان شبابي؛ وابن آدم في هذه السن ربيع من أربعة الفردوس لا يدرك بمحدود الشعور، ولا يوصف بلغة الشعر. فهو منظور الخلقة، مسجور العاطفة، مسحور المخيلة، لا ينشد غير الحب، ولا يبصر غير الجمال، ولا يطلب غير اللذة، ولا يحسب الوجود إلا قصيدة من الغزل السماوي ينشدها الدهر ويرقص عليها الفلك. وعلى ذلك كنا أيام تعارفنا وتآلفنا: هو على حال عجيب من مواس الهوى وما لابسها من ألوان وصور، وأنا على عهد قريب من ترجمة (آلام فرتر) وما سايرها من أحلام وذكر!
قال لي صديقي حسين ونحن عائدان من نزهتنا اليومية في الشقة الخلوية من شارع البحر: مل بنا إلى قهوة (ميتو) أعرفك بشاب من ذوي قرابتي يرضيك خلقه، ويطربك حديثه، وقد يعجبك شعره. وكان شارع البحر كما هو اليوم متنزه المدينة، فلا ترى على جانبيه غير مماص القصب، ومشارب الكازوزة، وعرائش الكرم وألفاف الشجر تتفيأها هذه القهوة.
دخلنا القهوة فوجدنا في باحتها بعض الإغريق وعلى إحدى مناضدها المنعزلة فتى رقيق البدن شاحب الوجه فاتر الطرف، ينظر في سكون ويقرأ في صمت. فلما رآنا هش بقريبه ورف لي، ثم كان التعارف. وطارحناه طرفا من الحديث ثم طلب إليه صديقي أن ينشدنا بعض شعره، فنشط لهذا الطلب وارتاح كأنما نفسنا من كربه أو خففنا من عبئه؛ ثم قال في