للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[ذكرى مدام كوري]

للكاتب العظيم اميل لودفيج

لا أظن سيدة ذات عبقرية كانت أقل هيمنة على أفئدة الرجال، وفي الوقت نفسه لها من السلطان في نفوسهم ما ليس لغانية من غواني باريس، كمدام كوري

من وقت لآخر كان يفد إلى العالم الفرنسي الكبير بول بانلفية بعض ذوي العبقريات الفرنسيين ويجلسون للسمر لديه في بهوه المتواضع الذي تراه أشبه بالأماكن العامة منه بمجلس عظيم من عظماء فرنسا وكبير من وزرائها، شأن العجوز الأرمل، بل شأن العالم الكبير الذي نفذت بصيرته إلى جمال الحقيقة والعلم فتسلى به عن زخرف الأرائك والطنافس

قصدت ذات يوم هذا البهو وقد سبقني إليه نفر من رجال العلم والسياسة. وكان رب الدار ملازماً لفراشه لانحراف ألم به، فصافحه كل منا على حدة في مرقده، بينما كانت شقيقته تسبغ علينا التحية في مجلس الضيافة. وكنت أشعر بأن عدم وجود بانلفيه بيننا قد جعل رابطة الجماعة مفقودة ومعين سمرها ناضباً

وكذلك كان المجلس فاتراً كأن برودة الطقس قد شابته وأثرت عليه، وبدلاً من إذكاء الحماسة فيه بفنجان من الشاي فقد أُعدت مائدة طعام على الطراز القديم المنمق ثم دعينا إليها بعبارات ملؤها التبجيل والاحترام

وقد أعجبت بانلفيه أن يقدمني إلى ثلاثة من ضيوفه وأهل طبقته من رجالات العلم والسياسة، وهم بيران ولانجفان وأميل بوريل، فأخذتني الرهبة أمام هذه الرؤوس الكبيرة والجباه العريضة لرجال عظماء في أبسط ما يكون من المظاهر، تلك البساطة التي هي زينة العلماء الفرنسيين والتي كانت في العصر الغابر شيمة العلماء الألمان. نعم أخذتني الرهبة أمام هؤلاء الرجال الذين يتعذر على مثلي أن يقدر أعمالهم من تلقاء نفسه وبطريق مباشر. ولما كان من العسير عليّ فهم ما يتخلل أحاديثهم من المباحث العلمية جعلت أتفرس في أدمغتهم الكبيرة وقوالبها المختلفة وما تحمل من علم وثقافة

وبينما نحن كذلك نقطع الوقت بين حديث متكلف تارة وسكوت عميق تارة أخرى، إذ دخلت علينا سيدة عجوز لا تمت إلى الجمال بصلة. كانت ترتدي معطفاً أزرق وعلى عينيها

<<  <  ج:
ص:  >  >>