إذا أردت أن تمتع النفس بجمال الطبيعة فانك لست واجداً هذا الجمال في المدينة لأنها دائمة الصخب والضجيج، مشتبكة المصالح العامة والخاصة بشباك يتعذر على المرء الولوج منها إلى حيث الحرية الطبيعية التي وهبها الله عباده. ولا شك أن المدينة أحد العوامل التي أرخت ظلها الثقيل على جمال الطبيعة في المدن. بل إن هذه المدينة نفسها هي التي اضطرت ابن الطبيعة إلى أن يعقها إرضاء لشهوة المدة، حتى إذا سئم حياة المدينة - وسرعان ما يملها لأنها حياة مضنية للعقل والجسد - تطلع إلى الطبيعة وارتمى في أحضانها إلى أن يرتوي ببهائها.
وجمال الطبيعة في مصر يتجلى في الريف والصحراء والبحر بصورة جلية واضحة، وقد ذقت لذة الجمال في كل فطبت نفسا بهدوء الريف وسذاجته، وأخذتني روعة الصحراء ورهبتها، ورقصت مع أمواج البحر وأعجبت بعظمته، ولكني لم ألق جمالاً أكثر تأثيراً في النفس مثل جمال الريف الطبيعي.
ولا عجب إذ تراني أقضي بعض أوقات فراغي في قريتي بالمنوفية وهي قريةغيرة بحجمها كبيرة بتاريخها، ومن أبنائها العالم الكبير، والوزير الخطير، والمدير القدير، ونسبة المتعلمين فيها طيبة. فإذا حللت بها نسيت كل شئ إلا الجمال: فهذه حقول واسعة تتزيا في كل موسم بلباس خاص قد يكون أخضر سندسياً مسترسلاً موشى بالأبيض اللامع والأصفر الفاقع في موسم البرسيم الجميل، وقد يكون ذهباً براقاً عندما تنضج سنابل القمح والشعير إيذاناً بالبركة والخير الجزيل، وقد يكون أبيضافياً عند ظهور وبر القطن ثروة القطر وأمل الجميع، وقد يأبى هذا اللباس إلا أن يكون ذا خطوط متقاطعة أو متوازية عند إطلاق الماء في المصارف قبل أن ينبت الزرع. وهذه دور ساذجة تقرأ فيها أخلاق القروي من بساطة العيش ووداعة النفس وشئ من الدهاء مقرون بالسذاجة، ونوع من الإهمال ممزوج بالجهل، يشرف على هذه الدور جميعاً، مئذنة مسجدغير ينبعث منها كل وقتلاةوت مسترسل عذب يدعو المؤمنين إلى ربهم.