ذات صيف، إذ كنت صبياً في المدرسة الابتدائية، وكنت في الريف أقضي عطلتي، صادفت الليلة الختامية للاحتفال بمولد أحد الأولياء هناك، وذهبت أجوس خلال حلقات الذكر ليلتئذ، فإذا (مجذوب) ناحل هزيل، مأخوذ بشعور ما، يهذي بما هو أشبه بالدمدمة أو (الهلضمة) منه إلى الكلام الواضح المفهوم، بينما وقف بجانبه فتى شاب يصلح من شأنه وهو يقول له:(وحّد الله وحد الله. . .) ودفعني فضول المعرفة فرفعت قامتي القصيرة إلى الفتى وسألته: (الراجل دا بيقول إيه؟) فأجابني في ابتسام وإشفاق أنه يتكلم (اللاوندي)
ولقد كنت أنتظر من صديقي الأستاذ زكي طليمات، بعد أن لفته في مقالي السابق إلى وجوب (موضوعية) كلامنا، كنت أنتظر من هذا الصديق أن يكون أكثر لباقة فلا يدفعه الدكتور بشر في المزالق فيندفع وينزلق ويتورط في مسائل علمية وفنية، ويشط بعيداً، ويجيئنا بحكايات متناثرة متنافرة مشحونة بالزيف والبهرج، حتى لقد غُمض فحسبته، أول الأمر، يقصد بألفاظه إلى رموز خاصة بنفسه، كما في الصوفية؛ وصخب فخلته يتكلم ذلك (اللاوندي) الذي سمعت في حلقة الذكر منذ ربع قرن من الزمان، وجئت أردد له قول صاحبي الريفي:(وحد الله. . . وحد الله. . .)
كان العراك بين جبهتي بشر فارس والشاعر علي محمود طه في غير معترك، ولكن الأستاذ زكي لم ير هذا، لأنه لم يتفق معنا على أن (النقد الفني) يجب أن يقتصر على تبيين قيمة (الصورة) التي يقدمها الفنان كإبداع له وحدته، بخلاف ما كان بين الجبهتين من خلط وتنابذ واتهام. إنما يتصور الأستاذ أني قصدت بتقريري أن (العراك كان في غير معترك) كون رواية (مفرق الطريق) تافهة ممسوخة، وأنا لم أرد غير ما رأيته من ضلال الجماعتين (أصول النقد) فليس ذنبي أن قصر فهم صديقي دون إدراك غرضي في تلك العبارة، وهو قريب بيّن
وأحببت أن يكون العراك في معترك، فبينت أن رواية بشر ليست من الرمزية في شيء، كما دللت على أن الدكتور المؤلف لا يفرق بين (رموز الصوفية) و (رموز الفن)، مع أنهما