للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[صور من الحياة:]

قلب أب!

للأستاذ كامل محمود حبيب

- ١ -

أتذكر - يا صاحبي - يوم أن عرفتك أول مرة فحن لك قلبي، وصبت إليك نفسي، ورقت مشاعري، يوم أن كنت عند مشرق الحياة صبياً ضاوي الجسم ناحل العود معروق العظم، تهاوى من ضعف وهزال، وتساقط من ضنى وحزن، فلا تجد اليد الرفيقة التي تمسح على أشجانك، ولا القلب الرحيم الذي يعطف على أسقامك، لأنك كنت قد فقدت أمك فما استطاع أبوك أن يصبر على الوحدة، وإنه ليحس التشعث والضياع، ويستثمر الضيق والملل، والدار من بين يديه خاوية تصفر، والخادم من أمامه لا ترعوى عن تراخ ولا عن إهمال، والدنيا في ناضريه تضطرب في حيرة وقلق، وقلبه يخفق بالأمل والرغبة وهو شاب في ميعه الصبا ووفرة المال، تتدفق في عروقه ثورة الشباب وتتألق في أعصابه دواعي الفتوة. . وضاقت به الحيلة، فانطلق يتلمس الخلاص في فتاة من ذوي قرابته يبوئها عرش داره وقلبه معاً لتملأ فراغاً خلفته أمك منذ شهور وشهور. وجاءت الزوجة الجديدة فأحست كأنها تزحمك بالمنكب وتدفعك بالقوة وتغلبك بالحيلة، لتستلبك من دارك ومن أبيك في وقت معاً، فحملت لها بغضاً؛ ثم انطويت على خواطر مضطرمة يتأجج لظاها في ذهنك.

واستحالت خفة الصبا فيك إلى رزانة كرزانة الشيخ عركته الخطوب وصقلته الحوادث، وتعكر صفو الطفولة في نفسك ممثل هم الرجل ينوء كاهله تحت عبء السنين العجاف؛ فانزويت تكتم أشجاناً غمرت حياتك على حين غفلة منك، وأنت ما تزال عند مطلع العمر.

وأفزع أباك أن يرى حالك تتغير، فتركن إلى الصمت وأترابك هناك في الشارع يملون الدنيا ضجة وصياحاً، وتسكن إلى الوحدة والدار تموج بالأهل من كل سن فلا تهدأ إلا ساعة القيلولة، وتستطيب الخلوة وأنت في سن الهرج والحركة تحبو إلى الشباب في غير ريت ولا جهل، وتنفض يديك من حاجات الغيط والدار فلا تسلى الهم بالعمل ولا تسرى عن النفس بالشغل. فجلس إليك - في خلوة - يحدثك حديث تجاربه، ويوحي إليك - وأنت

<<  <  ج:
ص:  >  >>