للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[طرائف من العصر المملوكي:]

الشكوى في شعر ابن نباتة

للأستاذ محمود رزق سليم

لا ريب أن البشرية غايتها السعادة؛ فهي تسعى إليها أفراداً وجماعات، وتطرق كلُّ باب يؤدي إليها، وكل سبيل تفضي نحوها. - وقد اختلف الناس - ولا يزالون مختلفين - في كنه السعادة وفي الوسائل المؤدية إليها. ولكن - ليت شعري - أيكون البؤس مظهراً من مظاهر السعادة، أو يكون وسيلة من وسائلها؟ نتساءل، لأن النفوس مختلفة الطباع، متباينة الاتجاه. ومن الناس من يجد لذته في شقائه، وسعادته في بؤسه. إذ خلقت نفسه ذات طبيعة قلقة حائرة تنشد الهدوء، حتى إذا وجدته نفرت منه، وعاودت سعيها إليه. وتطلب الرضا، حتى إذ ظفرت به ونعمت بأسبابه، قطعت ما بينها وبينه، ثم شاقها الحنين للبحث عنه. هذه نفوس من طراز خاص توسع في آمالها ما أفسح لها الخيال، وتسعى في سبيلها ما بدا لها السعي. حتى إذا وصلت إلى أمل جددت أملاً؛ وإذا ما انتهت من سعى عاودت سعيا. لأن غايتها في السعي نفسه، لا في عاقبته. ولأن إربتها في البحث ذاته، لا في نهايته، فهي أبدا في عمل دائب وهم ناصب. وهي لقلقها الذي فطرت عليه، وحيرتها التي خلقت بها، لا تستريح إلى طريق في الحياة ممهدة معبدة، لا أمت فيها ولا عوج. ولا تطيب لها السبل، إذا امتلأت جبناتها بالورود والأزاهير. بل تفضل منها المعقدة الملتوية المجذبة، على السهلة المستقيمة المخصبة. وتختار المشقة على اليسر، وتؤثر التعب على الراحة. كلُّ ذلك لا ليقال: مجيدة بلغت السيادة بجدها وجهادها، ولا ليقال: فريدة حازت السعادة بكدها وجلادها، بل لكي تلائم بين هذه المشقات وبين طبيعتها، وما فيها من قلق وحيرة. ولكي تجد فيها من الأسباب ما ترتل عليه شكواها وتوقع أنينها. فهي مطبوعة على حب الشكوى، تجيدها وتجد فيها راحتها، ومفطورة على الأنين تحبه، وتستشعر خلاله طمأنينتها. وهي لا تستطيع الحمد فلا تجأر به، ولا تستسيغ الرضا فلا تهدأ إليه. ولو راحت تحمد وترضى، ما استطاعت ذلك إلا متكلفة مجهودة، ومتعبة مكدودة.

هذه نفوس من طراز خاص كما أشرنا. وتأبى الأقدار إلا أن تهيئ لها كلُّ العوامل التي تنضج فيها هذا الفن من فنون الحياة فتلقى في طريقها الأشواك، وتبث الشراك، حتى يكثر

<<  <  ج:
ص:  >  >>