كان في أقصى الصعيد نجع قريب من الجبل يسكنه جماعة من فقراء الفلاحين وبينهم بعض الأعراب الذين سكنوا القرى المصرية واعتادوا حياة الريف والاستقرار، ولكن لم تتبدل فيهم غرائز البدو وعاداتهم الموروثة. وكان في النجع بدوي شيخ قد ناهز الثمانين، أسمر البشرة، حديد البصر، اسمه (رحاب)، إذا مشى خلف جماله اطرق برأسه غير ملتفت إلى أحد من الذين يحيطون به معجبين باستقامة عوده ونشاط بدنه، على ما بدا من شيخوخته، فلا يفارق عصاه الغليظة يبسطها على عاتقه ويلف عليها ساعديه، وهو حافي القدمين قد اشتمل بعباءة من وبر الجمال، واعتاد أن يحمل خيوطا كثيرة من ذلك الوبر الذي كان يغزله
وكان له ولد يدعى (دياب) في الثلاثين من عمره قد أصبح مضرب المثل في حسن الفتوة وكمال التكوين والقامة المديدة؛ له عينا صقر وشارب مفتول، ولكنه كثير الاغتراب والأسفار، يطوي الفيافي والبيد سعياً على قدميه، ويجوب أقاليم الصعيد من أقصاها إلى أقصاها يبيع للفلاحين النوق والجمال، ثم يعود إلى مضرب أبيه مفعم الكيس بالمال. أما أبوه الشيخ رحاب فإنه لا يغادر الخباء إلا إذا سرحت جماله في الأراضي البور المترامية خلف النجع وعلى ضفاف النيل، فيمشي خلفها حتى إذا بلغ رابية بأقصى الساحل جلس عندها وتناول مغزله يديره طول يومه، فإذا جاع تناول قبضة من التمر اليابس، ثم اشتمل بعباءته ونام بعين الساهر اليقظ. وكانت له فتاة صبوحة الوجه، مليحة التكوين، تخطر في مشيتها فيفتتن الناظر بسحر أحداقها المتقدة حسنا ورقة، وكانت الفتاة، واسمها (سلمى) تزين صدرها بألوان من العقود، وتطوق خصرها بنطاق من الحرير الأحمر، ولها في الخباء صندوق احمر عليه تصاوير وألوان مما يباع لأهل القرى، يتدلى مفتاحه من غدائرها، وقد جمعت فيه ثيابها وأقراطها وأساورها، وكل ما حرصت على جمعه من ألوان الزينة التي