لست أدري كم ندنو من الحق حين نقرر أن لكل أمة طابعا في التفكير يطبع إنتاجها الفكري بوجه عام، ولولا أن ما تبادله الأستاذ الكبير الدكتور طه حسين والأستاذ العقاد لم يجف مداده بعد لزعمت هذا التقييم في يقين لا يعرف الشك. ألا تتميز إنجلترا بالنزعة الواقعية ألمانيا بالنزعة التفكيرية أليست إنجلترا مهدا للأفكار العملية التي تقف عند الواقع المحس (لا تعدوه) بل تكاد ألا تعترف بما وراءه. أليست ألمانيا منبتا خصبا للمجهود العقلي العميق، الذي يضرب فيما وراء الطبيعة، ويوشك ألا يعترف لهذا العالم المادي بحقيقة أو وجود، ثم أليست فرنسا موطنا للنزعة الرياضية؟ ألا يتميز الرجل الإنجليزي بالوضوح الذي أدى به إلى التمسك بالحقائق الواقعة، والفرنسي بالدقة التي طوحت به في بيداء اللاأدرية والشك، لأنه ينشد حقا يبلغ حد اليقين الرياضي فلا يجد. كما يتميز الألماني بالعمق في التفكير الذي انتهى به إلى اعتبار الفكر أصلا للوجود؟ عندي أن هذا كله حق يؤيده تاريخ الفلسفة.
ولم يكن ليبنتز فيلسوفا ألمانيا فحسب، انما كان أب الفلسفة الألمانية الحديثة غير منازع، أفتستطيع إذن أن تصور لنفسك عمق تفكيره وإمعانه في البحث عما وراء الطبيعة؟ وقد شاء له ربك أن يكون مهبطا تجتمع عنده أطراف النقائض، فيمثلها جميعا، ثم يخرجها للناس فلسفة متحدة متجانسة، فهاهو ذا قد تسلم ميراث ديكارت وسبينوزا من ناحية، وباكون ولوك من ناحية اخرى، فالتقت لديه بذلك سلسلتان متضاربتان من التفكير، إحداهما (ديكارت وسبينوزا) تنكر الحقائق الفردية وتؤكد قانونها الخالد: أي أن هذا الإنسان المعين أو تلك الشاة أو ذلك الطائر أو ما شئت من أفراد، ليست حقائق مقصودة لذاتها، انما هي مجرد تطبيق لقانون شامل، فأما هذه الافراد فذاهبة مع الموت، وأما ذلك القانون فخالد لا