ما هب صرح مدنية روما ينهر بقدوم البرابرة الأوربيين من الشمال حتى انتشرت الديانة المسيحية انتشارا سريعا، وصادفت في قلب الشعب التعس تربة خصبة تنمو فيها، لإفتتانه بوعودها الجميلة، ولأنها واسطة انتقال من حياة ملأى بالمصائب والعذاب إلى حياة السعادة والهناء. فتأسس من معتنقي هذه الديانة الجديدة جماعات أخوية تحت رعاية أحدهم يرشدهم إلى الحياة القويمة، أو يلقنهم دروسا في الحصول على الحياة الأخرى. ومن هذه الجماعات أو رؤسائها تكونت طبقة الاكليروس، وفي يدها أمور الشعب الدينية والمدنية. وكان نظام هذا الاكليروس أشبه بنظام دائرة التامين على الحياة: تتاجر بالنفوس؛ فكان الإنسان يعطى ماله وأرضه ودينه، وحتى عقله للكنيسة، لكي يؤمّن حياته بعد الموت. فان راعى قوانينها أعطى تلك الحياة في الجنة، وان خالفها حرمته من الكنيسة وكان نصيبه جهنم بعد الموت.
لكن الكنيسة لم تنشأ فقط بعقائدها الدينية، ولم يكن الكتاب المقدس دعامتها الوحيدة في بناء صرح نفوذها وتحكمها في الشعب؛ بل كان هناك مع الديانة المسيحية المدنية اليونانية، وهير ثروة كبيرة وتركة ثمينة خلقها الأقدمون، فلم تقدر على إهمالها وطرحها جانبا والاكتفاء بتعاليم المسيح وحدها. ويرجع السبب في هذا إلى إن اثر المدنية اليونانية في قلوب الناس لم يذهب باعتناقهم الديانة الجديدة، وليس من السهل أن يذهب تأثير قرون طوال بقيام نزعة جديدة، وفي أمد قصير؛ دعك مما كان لأرسطو وكتاباته من التأثير الجسيم في العقلية اليونانية أولا وفي الكنيسة ثانيا.
قد نرى هنا الكنيسة بازاء الدين المسيحي والمدنية اليونانية تكاد تقع في مأزق حرج من احتمال تناقض العلم القديم بالدين المقتبس الجديد، وقد ينتج عن رأينا هذا السؤال: كيف تمكنت الكنيسة إذنمن التوفيق بين الاثنين؟ أو كيف قدرت أن تستمسك في تلك النقطة الحرجة؟ الجواب على ذلك هو أن الدين المسيحي والمدنية اليونانية لم يتناقضا قط، وكيف يتناقضان والأول خرج من تأثير الثاني؟ فمثلا لم تكن هناك فكرة واحدة أساسية في أصل الكون عند اليونان، حتى تناقض قصة الخليقة في كتاب التكوين، وأساطير اليونان القديمة