قبل أربع عشرة سنة كتب صديقنا الأستاذ المازني مقالاً عن الخيام ألمع فيه إلى تصوف الخيام واستغرب أن يدين رجل مثله بخيالات المتصوفة وشطحاتهم البعيدة عن تحقيق الحلم وتقرير الواقع لأنه (كانت له موهبة تنأى به عن التصوف: ذلك أنه كان رياضياً بارعاً؛ ومما يذكر له في هذا الباب تنقيحه التقويم السنوي تنقيحاً أظهر فيه من الحذق والأستاذية ما أطلق لسان جيبون المؤرخ الإنجليزي بالثناء عليه. وله كذلك طائفة من الجداول الفلكية ومؤلف في علم الجبر بالعربية؛ والذهن الرياضي مجاله وعمله ضبط الحدود والحصر وتعليق النتائج بأسبابها والمعلول بعلته، وهو عمل يتطلب من الدقة والعناية والترتيب والتبويب ما لا يطيقه أو يقوى عليه ذهن المتصوف. ومن العجيب أن فتزجرالد لم يفطن إلى دلالة هذا ولا خطر له أن يسوق هذه الحجة فيما ساقه لتبرئة الخيام من التصوف).
ومن رأيي الذي لا أزال أراه أن الملكات الرياضية أقرب الملكات إلى التصوف والفروض البعيدة والعقائد الخفية، فكتبت يومئذٍ بصحيفة البلاغ مقالاً عن القرائح الرياضية والتدين، ناقشت فيه رأي الأستاذ المازني وبينت فيه أسباب العلاقة بين القريحة الرياضية وبين التدين والإيمان بالغيب؛ وأهمها أن حقائق الرياضة ذهنية وليست خارجية، فهي أقرب إلى الفروض وأبعد عن مراجعة الواقع الذي يراجعه علماء الحس والتجربة والمشاهدات العملية؛ فاعتماد الرياضيين على البديهة أكثر من اعتمادهم على الملاحظة، واستعانتهم بالفرض أكثر من استعانتهم بالتجربة: وموقفهم أمام المجهول موقف يسلم به فرضاً ولا يستبعد فيه أي شيء، وهذا سر تدينهم وإخباتهم وميلهم إلى تصديق المعجزات والخفايا وما شاكلها مما يلي البديهة الغامضة ولا تكاد تجمعه بظواهر الأشياء صلة. وفي عصرنا هذا لم يشتهر أحد من الرياضيين كما اشتهر أوليفر لودج الإنجليزي وفلامريون الفرنسي وأديسون الأمريكي، وكلهم من أعظم علماء الرياضيات، وكلهم مسترسل في إثبات أسرار الروح وكشف غوامض الاستهواء.
قلنا: (لهذا تتآخى فروع هذه الحقائق أحياناً وتتآلف العلوم التي تبحث فيها وتتقارب الملكات التي تكون في المشتغلين بها، فيكثر من يجمع بين الفلسفة والرياضة ولا يندر أن ترى من