وضبطها وكبحها والحرص على الفضائل الاجتماعية، ولكنه حين يكون بين إخوانه الذين اصطفاهم لا يتردد في المعالنة بإنكار الخير والشر والفضيلة والرذيلة، ويذهب إلى أن هذه كلها أكاذيب يستعان بها على تنظيم حياة الجماعة ووقايتها ما تجره الفوضى؛ ويؤدي إليه إرسال النفس على السجية الساذجة بلا كابح. وعنده أن الإنسان حيوان مصقول لا أكثر، ولكن الصقل لا يمنع أن تطغى عليه حيوانيته إذا استفزها شيء، فلا تعود طبقة الدهان - وإن كانت سميكة - تنفع أو تصد. وما من إنسان في رأيه يحجم عن الشر حتى من غير استفزاز إذا وسعه أن يقدم عليه وهو آمن. وكل امرئ يشتهي أن يكون له مال الأغنياء، وقوة الأقوياء، وسطوة الحاكم، وبطش الظالم، وفجور الفجار؛ ولكنه يقيس قدرته إلى شهوته فبطلب ما في طوقه، ويقصر عما عداه، وتفعل العادة والنظام المألوف والشرائع فعلها أيضاً.
ولست أعرفه مشى في جنازة أو بكى على ميت، فأن هذه عنده سخافة. وحبه مع ذلك للحياة وجزعه من الموت أقوى ما عهدت، ووفاؤه لإخوانه وحدبه ورقة قلبه من الفلتات المفردة في هذه الدنيا. وهو حين يذكر نظرية قديمة ظهر بطلانها وعفي عليها الزمن، يخيل إليك أنه يؤبن ميتاً على قبره من فرط شعوره بالزوال؛ وإذا سمعته يبين فساد رأي رأيته يترفق بالرأي ولا يعنف في تفنيده كأنما يتقي إيلامه وجرحه.
وقد قلت له مرة:(إنك تهدم بيد ما تبني بالأخرى) فقال: (كلا، فإن الذين أصارحهم بما انطوي عليه من الآراء الخاصة - أو على الأصح أدع نفسي تتفتح على هواها بلا كابح في حضرتهم - يسعهم أن يفهموا ويقدروا، بل أن يهتدوا إلى أصح وأصدق من آرائي؛ أما سواد الناس فأصلح لهم أن يبقوا على التقاليد، وأن تتحدر حياتهم في المجاري المقررة المحفورة من قديم الزمان، وإلا ارتدوا إلى الهمجية. ثم إني أخشى أن أكون مخطئاً فكيف أستبيح أن أزلزل للناس نفوسهم؟ ألا يمكن أن يكون الناس على صواب وأكون أنا الذي ركبت من الغلط أبلد الحمير؟ جائز. . . كل شيء جائز).