للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قلت: (لا أدري ماذا تستفيد من هذه المجالس إلا الحسرة. أولى بك أن تقصر. . . هو أحجى وأرشد)

قال: (لا أستطيع. إني مدبر فعيني لا تزال تتلفت إلى ما أُوَلَّي عنه. أنت أصغر مني فالذي أمامك لا يزال إن شاء الله أطول مما خلفت وراءك. وهل وراءك إلا الطفولة الغافلة والحداثة الجاهلة والشباب الغرير؟ ولكني أنا ورائي خير ما في العمر. . . فلا يسعني إلا أن أنثني وأتلفت وأدور وأتوقف. غير أني لا أتحسر لأني أصح إدراكاً لحقائق الحياة من أن أفعل ذلك؛ وحسبي متعة النظر ولذة الحديث، ومن متعي أن أرى الشباب كيف يلهو كما كنت ألهو. ولست أحجم عن اللهو إذا تيسرت لي أسبابه وإلا ففي لهو العقل الكفاية)

قلت: (اسمع. إني لا أرى مما يليق بك أن. . .)

فصاح بي: (خل ما يليق بي لي، فإنه شأني. واسمع. إن لي حياتين: حياة العمل وهذه مشتركة بيني وبين الناس وأنا فيها جاد صارم، وحياتي الخاصة وهذه لي وحدي وليس للناس شأن بها فيما لا يمسهم منها. . . لا تعترض. . . إن الناس جميعاً كذلك ومنافق كذاب من يدعي غير هذا)

ومن آرائه أن أهل المدن المتحضرين ليسوا أقل خشونة وجلداً من أهل الريف، ولا أرق ولا أطرى كما يتوهمهم البعض. ومن قوله لي في ذلك: (إنكم تنظرون إلى أفراد معدودين من ذوي اليسار والترف، وتقيسون أهل المدن جميعاً على هؤلاء الآحاد وتنسون أن كثرة الناس من الفقراء الذين لا يكفون عن السعي والكدح في سبيل الرزق ليلاً ونهاراً. . . أين في الريف من يتعب كتعب أهل المدينة؟ أين في الريف من يعدم قوتاً، ويبيت طاوياً كما يبيت الكثيرون من سكان المدن؟ وأين هو هذا الترف في حياة المدينة؟ وليس في المدن رذيلة إلا وفي القرى مثلها؛ ولكن المدن مزدحمة غاصة، وتيار الحياة فيها زاخر، فالعيوب تبدو أبرز. كلا، الإنسان هو الإنسان سواء أكان في قرية سحيقة أم في المدينة، ولكن الحياة في القرية أهدأ وضغطها على الأعصاب وإتلافها لها أخف وأقل؛ فالناس في المدن أطلب للترفيه، وأكثر مصارحة بالرغبة فيه)

وآراؤه في مجالسه العامة غير آرائه في مجالسه الخاصة، فهو مثلاً في حياته العامة لا ينحرف مقدار شعرة عن تأييد التقاليد المقررة، ولا يكف عن الدعوة إلى مغالبة النفس

<<  <  ج:
ص:  >  >>