. . . رفع الشيخ صوته مرة ثانية يأمر التلاميذ بالانصراف ولكنه لم يسمع لهم ركزا، فنظر فإذا المقاعد كلها خالية، وإذا آخر تلميذ قد بلغ الباب الخارجي، ثم قفز فرحاً مسروراً، وغاب في منعطف الطريق، وعم المدرسة السكون. . .
تنفس الشيخ الصعداء، وألقى عصاه جانباً، ثم تمدد على كرسيه المستطيل، يستريح من العناء الذي حمله في نهاره، وكأن هذا السكون العميق، وهذه الصفرة التي تبعثها في الغرفة أشعة الشمس المحتضرة قد ملأ نفسه كآبة ورهبة، فاغمض عينيه، وأسلم نفسه لخيالاتها:
أحس كأن هذه السجف التي أسدلها دون الماضي، ترتفع سجافاً سجافاً، وان هذا الماضي البعيد الذي لفه في ثوب النسيان، وألقى به في هوة العدم، قد استفاق في نفسه مرة واحدة، ثم عاد يكرر عليه كما يكر (شريط السينما)، ولكنها سينما حياة طويلة، مرت عليه كأنما هي يوم واحد أو بعض يوم، سبعون عاماً مرت به في لمحة عين، فلم يأخذ بصره فيها إلا العمل المستمر في تعليم صبيان دمشق، سبعون عاماً لم يسترح في خلالها إلا أيام الجمع، ثم يعاود عمله منذ الصباح السبت، هادئاً راضياً نشيطاً. . .
عادت به الذكرى إلى ذلك اليوم الذي بدأ فيه حياته التعليمية، وكان غض الشباب، يقطع مرحلة (العشرين)، وكان يوماً بعيداً طوى فكره الوصول إليه ثلاثة أرباع القرن، وأدار الفلك راجعاً سبعين دورة. . . يا لقدرة الفكر البشري! كيف يدير الفلك كما تدير الإصبع عقرب الساعة تقديماً وتأخيراً؟
كانت المدرسة التي استأجرها غرفة واحدة، في (المناخلية) قبالة الباب الحديدي الذي بقى مع قطعة من السور، تراثاً لدمشق المفتحة الأبواب لكل طامع، من دمشق المنيعة المتحصنة بسورها وقلوب أبنائها من كل طامح، وفي هذا الباب نفحة من نفحات الغساسنة (العرب الخلص) يحسها من يجوزه، كما يحسن من يدخل من الباب الشرقي روح خالد بن الوليد، بطل عصره، واينبال العرب، وكما يحس من يمر من باب الجابية روح أبى عبيدة بن الجراح، ولم يكن هذا الباب معروفاً بباب المناخلية كما يدعي اليوم، بل كان يدعى بالباب