للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

المسدود، وقد كان قبل أن يسد الباب الرسمي الملوك الغساسنة، وكان يقابل قصر البريص، حيث كان الغساسنة الكرام الحسب الشم الأنوف:

يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل

ذكر كيف لبث نهاره كله منفرداً لم يجئ إليه تلميذ واحد، وكيف أسرع المساء بالعودة إلى داره. قبل أن يقفل العسس أبواب دمشق، وبواباتها التي كانت تغلق منذ العشاء، أيام كان الناس جادين مستقيمين لا يعرفون ملاهي الغرب ورذائله، ولا يعرفون أحياء الليل في الفاحشة، وقتل النهار في الكسل. وكيف كان قوى الأمل، جم النشاط، لا يخالط اليأس قلبه، فلم ينثن عن عزمه. وغداً في اليوم الثاني إلى مدرسته التي أنشأها في البلد الذي لا يعرف القراءة إلا اثنان في الألف من سكانه. . . فجاءه خمسة تلاميذ، وشرع يعمل

لم يكن الشيخ يحمل شهادة، ولم يكن في دمشق كلها من يحمل شهادة البكالوريا أو الكفاءة، ولكنه قد أتقن العلوم الإسلامية والعربية، وثابر سنين طويلة على (الطلب) حتى ألم بالثقافة العامة المعروفة في زمانه إلماماً حسناً. وانصرف للتعليم ابتغاء لمثوبة الله، وأجابه للرغبة القوية الجامحة. فلما جاءه هؤلاء التلاميذ، رأى فيهم تحقيقاً لحلمه فأكب على تعليمهم وتهذيبهم

- أحسن الله لأولئك التلاميذ! لقد كانوا أشرافاً عاملين، ثيابهم كاملة. وحركاتهم وأفعالهم فياضة بالرجولة، وحياتهم مقصورة على البيت والمدرسة، لا تعرف الرذيلة الغربية طريقاً إلى نفوسهم، ولم يكن الغرب قد غزانا بأزيائه وملاهيه وأبنائه، وأبنائنا الذين علمهم العلم والعقوق. وأعطاهم السلاح ولقنهم كيف يقتلون به (التقاليد) الشرقية الشريفة، فكانوا بمنجى من هذا كله.

لقد هاجت الشيخ ذكرى أولئك التلاميذ الذين أصبحوا اليوم شيوخاً ومات منهم من مات، وقارن بينهم وبين تلاميذ اليوم المتأنثين المتخنثين الذين يتقنون التجمل ويغوصون في الملاهي القذرة إلى أعناقهم فاسترجع وهم بالبكاء. وازدحمت في ذاكرته الصور المؤلمة، فرأى كيف كان يتلقى الفوج من تلاميذه أطفالاً، فيعلمهم ويربيهم، ويجعل منهم شبانا عاملين، ثم يودعهم بعد أن يوليهم من نفسه أسمى ما يولى والد ولده، فيغادرون المدرسة، ليدخلوا الحياة، ويرتقون من مقاعد النظارة إلى خشبة المسرح، ويحسبون أن هذه الشهادة

<<  <  ج:
ص:  >  >>