غاية العلم، وهي فاتحته، وانهم إذا نشروها، طويت لهم المراتب إلى الصدر وقدم لهم من كل شيء ما يشتهون، لا يدرون أن للحياة فناً غير فن الكتب، وفى العلم آفاقاً لا تحيط بها المدرسة. . . وكيف كان يلبث الأيام الطويلة يستوحش بالمدرسة والمنزل، ويحس بالفراغ في قلبه بعد أن اقتطع منه كل فوج قطعة ويتألم ويجفوه النوم. فلا يعلم إلا الله بألمه. ثم يستعين بالله ويستأنف العمل مع تلاميذه الجدد. ويحاول أن يجد فيهم بدلاً مما فقد، حتى إذا أنضجت الثمرة خرجت من يده. وكان حظه من هؤلاء حظه ممن سبقهم: ينسونه مذ يتخطون بأقدامهم عتبة الباب، وينصرفون عنه إذا لمحوه في طريق، مصعرين خدودهم، شامخين بأنوفهم - وهم التجار الأغنياء، أو الموظفون الكبار، أو الوجهاء الكرام - على هذا الشيخ المسكين (معلم الكتاب)
- أحد عشر ألف تلميذ. . . أحد عشر ألف. . . علمتهم وأفنيت فيهم حياتي، فضاع تعبي فيهم أدراج الرياح. . . يا الله! وفتح عينيه فوقع بصره على مرآة كانت إلى جانبه فنظر فيها وأطال النظر كأنما قد انتبه الآن إلى لحيته البيضاء الناصعة، والى سنيه التسعين فاسترجع مرة ثانية. . . وسأل الله حسن الخاتمة
- سقياً لتلك الأيام الهنيئة. حين لم يكن في دمشق إلا هذه المدرسة. ومدرسة الشيخ الصوفي، أما الآن فالمدارس تعد بالمئات، ولكن الناس لا يميلون إلا إلى المدارس الأجنبية، إنهم يضنون على مدرسة كهذه المدرسة تقدم أبناءهم لفحص الرسمي العام، وتحفظ لهم دينهم ووطنيتهم بعشرين قرشاً في الشهر، ثم ينفقون مائتين وثلاثمائة في المدارس الفرنسية أو الإيطالية أو الإنجليزية، ليعود اليهم أبناؤهم فرنسيين أو طلياناً أو إنكليز. . . آه، الحمد لله على كل حال الحمد لله. . . إننا نجد ثمن الخبز.
وانتبه فإذا الباب يقرع قرعاً متواصلا
- ادخل، تفضل. . . ممن هذا الكتاب؟
- من وزارة المعارف
قرأ الشيخ الكتاب أولا وثانياً، وقرأه مرة ثالثة، فغشيت وجهه سحابة أليمة من الغم، ثم قام إلى مكتبته صامتاً، فأخرج من قراراتها دفتراً كبيراً مسح الغبار عنه، وأخذ يقلبه يفتش عن هذا الاسم، بين أحد عشر ألف اسم حواها هذا الدفتر، فلما وجده تناثرت الدمع من عينه.