غادر القطار مدينة جنوا متجها نحو مرسيليا، ومتقفياً تعرجات الشاطئ الصخري الطويلة، وأخذ يسلك سبيله - بخفة وسرعة ونشاط، كثعبان أسود مخيف - بين اليم والجبل، زاحفاً فوق الشواطئ ذات الرمال الصفر التي تدغدغها الأمواج الصغيرة بخيوط دقيقة لجينية، ثم يدخل - دون تمهل - فوهة النفق الأسود، كما تدخل البهائم في أجحارها، أو الطيور الغَردة في أوكارها
وكان في العربة الأخيرة من القطار، شاب في ريعان صباه، وامرأة أُوتيت من السمن حظاً وفيراً. جلسا متقابلين وجهاً لوجه، دون أن ينطقا بحرف، أو ينبسا ببنت شفة. وكان كلاهما يختلس من صاحبه النظر، بين الفينة والفينة. أما المرأة فكان لها من العمر نحو خمس وعشرين ربيعاً، وكانت جالسة قرب النافذة تمتع ناظريها بمناظر الطبيعة المُرَنِّية وهي إلى ذلك امرأة قروية صلبة العود، قوية البنية، من مقاطعة بييمون الإيطالية، ذات عينين سوداوين، وصدر ناهد جسيم، ووجنتين مكتنزتين باللحم والشحم، وقد ألقت تحت مقعدها الخشبي عدة حُزم ورِزم، واحتفظت فيما بين ركبتيها بسلة
أما هو. . . فقد كان على النحو العشرين من عمره، وكان نحيلاً مهزولاً مسقَّماً بصبغة سمراء قاتمة، وهي من علامات الرجال الذين يعملون في الأرض، خلال فصل الصيف، وفي حر الهاجرة وكان إلى جانبه منديل حوى كل ما ملكت يمينه من (ثروة!) ونشب: حذاء وقميص، وسروال وصدار. وقد أخفى عدا ذلك تحت المقعد أشياء أخرى: مِجرفة ومعولاً، ُربط بعضها إلى بعض بحبل. لقد كان ذاهباً إلى فرنسا ليبحث فيها عن عمل يعتاش من ورائه
أخذت الشمس تتسلق القبة الزرقاء، بخطوات مبتدئة رزينة، وأخذت تقذف من برجها العاجي البعيد وابلاً من أشعتها النارية المستمرة على الشاطئ الهادئ الوديع.