كان ذلك في أواخر شهر أيار، وأريج الزهر العطري يعبق في الجو، ويدخل العربات، التي ظلت نوافذها مفتحة، وكان شجر البرتقال والليمون في إبان إزهاره، وأريج زهره الناضر يعبق في الجو ويتطاير مع النسيم برقة وعذوبة وقوة، فيفعم الأنوف، ويملأ الخياشم، ويمتزج برائحة الورد الفواحة العطرة التي كانت تنبت على طول الطريق بكثرة مفرطة كما ينبت العشب أو الكلأ في البساتين وأمام الخرائب المتهدمة، وفي الحقول والمزارع أيضاً.
لقد كانت هذه الورود والأزاهير في المكان الملائم لها على هذا الشاطئ الوديع، وكانت تملأ جو البلدةَ بشذاها الفواح، وأريجها التضوع، حتى أنها تجعل النسيم حلو طيباً كقطعة من حلوى! وليس ذلك ما تصنعه فحسب بل كانت تجعل النسيم شيئاً ألذ من الخمر، ولكنه مسكر كالخمر!
أما القطار فكان يسير الهوينى، كما لو أنه يبغي عامداً أن يطيل مشيته في هذه الحديقة الحالمة؛ وكان يقف بين الآونة والأخرى في المحطات الصغيرة أمام بعض المنازل البيض، ثم يستأنف مسيره الهادئ الواني ثانية بعد أن يصفَّر طويلاً، لم يكن أحد يركب القطار من تلك المحطات، ولم يكن يُرى أحد أيضاً؛ حتى إن المرء ليحسب أن الخليقة ناعسة بأسرها، وأن أحداً لا يجد القوة والنشاط لتغيير موضعه في ذلك الصباح اللاهب من فصل الربيع
وكانت المرأة البدينة تسبل جفنيها بين الآونة والأخرى ثم تفتحها على حين غرة، عندما تشعر بأن السلة التي وضعتها بين قدميها على وشك السقوط، فتمسكها بحركة سريعة نشيطة، وتمد رأسها إلى النافذة، وتمتع ناظريها بمشاهد الكون المرئية، ثم تعود إلى إغماض جفنيها من جديد، وكانت بعض قطرات من العرق تلتمع فوق جبهتها، ثم تتنفس بجهد وعناءٍ، كما لو كانت تعاني ضغطاً شديداً
أما الفتى القروي فقد أحنى رأسه، وأستسلم لنوم عميق لذيذ وعندما كان القطار يغادر محطة صغيرة، استيقظت المرأة على حين غرة ثم أخرجت من سلتها رغيفاً من الخبز وبيضاً مسلوقاً وقارورة من الخمر وأجاصاً جيداً مورَّد الخد وشرعت تأكل
وأستيقظ الشاب فجأة أيضاً على صوت حركاتها الأخيرات وأخذ يرنو إليها ويطيل النظر