كانت المحاضرات الثلاثة السابقة التي ألقاها الأستاذ ساطع الحصري بالجمعية الجغرافية الملكية في نشوء فكرة القومية في أوربا، وقد انتقل إلى الشرق في المحاضرة الرابعة التي ألقاها يوم السبت، فتحد عن (نشوء فكرة القومية عند الأتراك - التيارات اللغوية والتاريخية التي رافقتها وساعدتها) فقال إن الدولة العثمانية كانت في أول أمرها تتجه إلى الفكرة الإسلامية العامة وخاصة بعد أن تم لها فتح مصر وانتقلت إليها الخلافة الإسلامية، وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر كانت الأفكار الوطنية قد امتدت إليها من أوربا ولكنها أخذت صبغة إسلامية، فكان الأدباء والشعراء يتحدثون عن الوطنية والقومية متجهين نحو التاريخ الإسلامي والعواطف الدينية، وتطورت الأفكار بعد ذلك حتى أخذت فكرة القومية وضعها الأخير. وبيان ذلك أن هذا التطور قام على نواح ثلاث: اللغة التاريخ والسياسة؛ أما من حيث اللغة فقد كان هناك لغتان: لغة الأدب الراقي، ولغة الأدب الشعبي، وكانت الأولى خليطاً من التركية والعربية والفارسية في الألفاظ والتراكيب والقواعد وأوزان الشعر، وكانت لغة شعراء القصور الذين هم عماد الحياة الأدبية الراقية، أما لغة الشعبيين فكانت تركية بحتة ولها أوزان عامية ليس فيها شئ من العربية. وحدث في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أن ظهرت دعوات إلى التجديد في اللغة والأدب، ونشأت مذاهب في ذلك، بعضها - وهو المعتدل - يدعو إلى بقاء الألفاظ العربية والفارسية التي سارت على الألسنة مع التزام القواعد التركية ونبذ القواعد العربية والفارسية كالإضافة والنسب وغيرهما، ودعا بعض المذاهب إلى التخلص من كل ما هو أجنبي في اللغة والأدب، ونظم الشعراء المجددون على الأوزان العامية. وقد اشتجرت الأقلام في هذا الميدان، حتى انتهى الأمر أخيراً إلى تغلب اللغة التركية، فهجرت الأوزان والقواعد العربية والفارسية، واصطبغت الأخيلة بالألوان الأوربية والآداب الشعبية؛ أما الألفاظ فقد بقي كثير منها حتى تغيرت حروف الكتابة، فتغير نطق الكلمات العربية وهيآنها تبعاً لتغير الحروف.
وأما التاريخ فقد كانت الدولة العثمانية تسير فيه على العناية بالتاريخ الإسلامي وعدم