يروي صاحب مسالك الأبصار أن أبا العلاء المعري كان يقول كلما أراد إنشاد شيء من شعر أبي العتاهية: قال الداهية أبو العتاهية. وتلك العبارة من أبي العلاء المعروف بدقته وعمقه ترينا مدى ما يتعرض له الباحث في حياة شاعرنا من صعوبات وما يواجهه من مشاكل، وذلك لأن من لوازم الدهاة من الناس الالتواء والغموض مما يجعل التعرف على مقاصدهم مما يفعلون ويقولون صعباً. والحق أن الناظر في حياة أبي العتاهية أو القارئ لشعره لا يكاد يفرغ مما يصادفه من مشاكل تريد حلولا، أو أسئلة غامضة تتطلب إجابة شافية.
وأهم تلك المشاكل وأشدها تعقيداً هو تحول الشاعر في سنة ثمانين ومائة للهجرة من شاعر حب وغناء إلى شاعر حزين متشائم لا عمل له إلا تزهيد الناس في الحياة وتنفيرهم من شهواتها، والإلحاح عليهم أن يتجهوا بقلوبهم وأعمالهم إلى ما هو خير منها وتلك هي الدار الآخرة. ولو أن الشاعر قد جعل من حياته الخاصة صورة صادقة لما يردده في شعره من دعوة إلى الزهد في الحياة، لقلنا مع القائلين أنه قد سئم الحياة بعد أن رفضت حبيبة نفسه عتبة الزواج منه، ومال إلى حياة الزهد والصالحين، وأسرف في ذلك الميل حتى لم يعد له ما يشغله إلا التحدث عنها والترويج لها في شعره. أما وإنه ما زال حريصاً على الدنيا أشد الحرص حتى بعد تحوله إلى ما يشبه حياة الزهاد، فلا وجه إذن لإدخاله فيهم. وهنا يعرض ذلك السؤال الذي لم يصادف جواباً مقنعاً في كتابة السابقين من مؤرخي الأدب العربي ألا وهو: أي شيء كان إذن سلوك أبي العتاهية إذا لم يكن زاهداً بالمعنى الذي نعرفه، وأي شيء كان يدفعه إلى ذلك السلوك المتناقض الغريب؟
لعل الإجابة عن هذا السؤال هي أهم وأبرز بحث في الدراسة التي نحن بصدد التقديم لها الآن، وقد استنفدت الكثير من وقت المؤلف ومجهوده، إذ وجد نفسه مضطراً أن يرجع إلى بيئة الشاعر وطفولته، لعله يجد فيها ما يلقي شيئاً من الضوء على ما اكتنف حياته من غموض واضطراب، وبعد دراسة طويلة مضنية أسفرت الحقيقة للباحث الذي تمكن من