ربط الانقلابات الاضطرابات التي طرأت على الشاعر في مختلف مراحل حياته - ومن بينها تحوله الصوري إلى حياة الزهاد - بما صادفه أثناء طفولته من ألوان البؤس والشقاء، وما أصابه في ذلك الحين من أمراض نفسية، وقد كان أشد تلك الأمراض تأثيراً على حياته وأعظمها إيلاماً له مولده الوضيع الذي جر عليه كثيراً من الخزي، وملأ قلبه حقداً على ذوي الجاه واليسار من أهل عصره.
على أن عوامل أخرى قد انضمت إلى تلك التجارب القاسية والأمراض النفسية التي صادفت الشاعر في طفولته، فأحدثت مجتمعة ذلك الانفجار الذي طرأ على حياة الشاعر سنة ثمانين ومائة للهجرة، والذي كان يعتبر حتى كتابة هذه السطور نوعاً من الزهد في الحياة. وأهم تلك العوامل هو سخطه على هارون الرشيد لأسباب سنذكرها فيما بعد، واستغلال الفضل ابن الربيع وزبيدة زوج الرشيد لذلك السخط. فكل من الفضل وزبيدة كان ناقماً على الحياة الصاخبة العابثة التي كان يحياها هارون بين جواريه الحسان وبصحبة وزيره جعفر البرمكي، لما في تلك الحياة من صرف للخليفة عن زوجه من جهة؛ وإضعاف لقدر الفضل بن الربيع من جهة كما سيأتي تفصيل ذلك. وقد وجدا في أبي العتاهية ضالتهم المنشودة، فهو ساخط على الحياة والأحياء وعلى الخليفة وحاشيته بنوع خاص، ورأيا في شعره خير وسيلة للتشهير بالملاهي وروادها، وبالتالي خير وسيلة للحد من نشاط الرشيد في ذلك الاتجاه الذي لا يرغبان فيه.
وهكذا تحول الشاعر من القول في الحب والغزل إلى التزهيد في الحياة والتنفير منها ومن شهواتها وملاذها متحاملا أثناء ذلك على ذوي الجاه واليسار من بني عصره. ومع أن ذلك النوع من الشعر لم يكن في الكثير الغالب إلا تفريجاً عن نفس الشاعر الموتورة وتعبيراً عن عواطفه المكبوتة، ومن ثم لم يكن يستحق عليه كبير جزاء، إلا أن الفضل وزبيدة لم يبخلا على الشاعر بالتشجيع المادي والأدبي لما كان في شعره من خدمة لأغراضهما.
هذه سطور قلائل لم نقصد بها إلا أن نعرض صورة مصغرة لأحد الموضوعات التي تعرض لها بحثنا. وإنا لنأمل أن يجد القارئ لما كتبناه عن أبي العتاهية إجابة لكل ما يجول في نفسه من أسئلة أو خواطر.