للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بين الفكر والعمل]

للأستاذ عبد المنعم خلاف

كلما استعرضت ما يقال في الأندية الثقافية والمعاهد العلمية، وما يكتب في الصحف والمجلات حول الأخلاق والمثل العليا، ووازنت بينه وبين حياة الواقع وما تندفع إليه مراكب الحياة العملية من الانحدار والسوء. . . كدت أميل إلى أن الكلام في المثل العليا ليس إلا لإدراكها في عالم الفكر فقط، وأننا لا نملك قدرة عملية على تحقيقها، وأن الكلام فيها ليس إلا لحملنا على الإيمان بأن هناك عالماً للكمال الذي في آجل حياتنا، فيجب أن نؤمن به للآجل لا للحاضر. وكدت أميل إلى أن الكلام في تلك المثل ليس إلا صناعة اتخذناها للارتزاق كما اتخذنا صناعة الأحذية ودبغ الجلود للارتزاق أيضاً. . . لما رأيته من أن كثيراً من المتكلمين يؤجرون كما يؤجر الراقصون والمغنون وغيرهم من محترفي الفنون الذين يستعان بهم للترويح عن النفس وللزينة وتجميل الحياة، و (للاستعراض) والترف الذهني واستعمال ما يسمونه (حرية الفكر). . .

ولكن. . . هل هذه الظاهرة - ظاهرة بعد حياة الواقع عن حياة الفكر - مطردة في جميع الأمم؟ إننا نعلم أن هناك أمماً أدركت في حياة الواقع كثيراً من أحلام الكمال، أو اتجهت نحو الكمال أو سددت وقاربت إن لم تكن أدركت، وأن العزيمة الصادقة والإرادة القوية والإخلاص للجمال والنظام صفات جديرة أن تنزل بعض سماء ما في عالم النفس والفكر من أحلام الكمال إلى عالم الواقع وتجسيمها.

والحق أن كثيراً من حقائق الأخلاق اليوم في بعض الأمم كانت أحلاماً بالأمس، وأن ضمير تلك الأمم قد صقل بالخير واقتنع به وارتاح إليه وبني حياة الاجتماع عليه.

والحق كذلك أن تعاليم الخير صار ينادى بها الآن - ولو نظرياً - في معاهد جميع الأمم.

وانظروا: هل في الأرض إلا أمم وأفراد ترفع رؤوسها نحو الحريات والكرامات تطلبها لنفسها بالدم والرأي والسلم والثورة؟ وهل فيها صرخات وهتافات بكلمات الحق والعدالة يطلبها المستضعفون لأنفسهم وللناس، ويتشدق بها الأقوياء والمتسلطون كحلية يزينون بها صوالج دولهم، ويجملون بها الأحاديث عن سلطانهم، ويزعمون أنهم حماتها وأساتها والمجاهدون لها في مجال سطوتهم؟

<<  <  ج:
ص:  >  >>