فماذا يدل عليه ذلك غير أن (سطح الحياة الإنسانية) ابتدأ يغلي ويفور ويشتد ويقذف وينضج؟ إن كل وحدة إنسانية تطلب الآن لنفسها ولقومها حقوق الحياة الكريمة الطيبة، لأنها تريد أن (تعيش) في عصر أصبحت فيه الحياة جديرة بأن (تعاش) بعد أن فتح العلم آفاقها ومهد مسالكها ووسع رحابها وأمدها بروح من قدرة الله وجدد ديباجتها وملكها مفاتيح كنوز الصحة والثروة ومقامع المرض والفقر والجهالة، وأفاض عليها بركات من السماء والأرض، وإنما يسيء إلى الحياة شيء واحد يشوه وجهها ويطمس سحرها، وهو أنانية بعض الأقوام!
هو الاستعمار الجشع: سواء كان استعمار طبقة لطبقة أم قوم لقوم أم فرد لفرد. فهو الشيء الوحيد الكافر بروح هذا العصر والناشز في انسجامه والمشوه لوجهه!
ولو أحسنا الإدراك والتفريق بين الأفكار التي للعمل والأفكار التي للترف الذهني، وعرفنا كيف نقدم الاستفادة بأفكار العمل في الأمم الشارعة في النهوض على غيرها من الأفكار لأنها أساس حياة الاجتماع ووسيلة بعث الثقة في نفوس الأفراد وتأمين حياتهم وحل مشكلات (عيشهم) لوفرنا على أنفسنا أزمات وشدائد تثير في نفوسنا الشك في حديث المثل العليا وتوهي عوامل الثقة والطمأنينة إلى الحياة.
وأعنى بأفكار العمل الأفكار التي هي أمهات الأخلاق والعلوم والأعمال الصالحة، وهي الأفكار التي درَّجت الإنسانية ونقلتها من طفولتها وأقامت الحرمة والقداسة حول أصول حياتها، وهي تشمل أيضاً العلوم والمعارف الطبيعية التي تمهد الحياة المادية تمهيداً يسمح باستقرار العيش ورفاهته والإقبال على الحياة في ثقة بها واستمتاع بطيباتها
وهي أفكار يجب الحرص عليها دائماً في كل عصر لحفظ الاجتماع واحترام حرمات الإنسان والاستمساك بقيم الحق والخير في حياته، وهي أيضاً أفكار لا يجوز مطلقاً أن يعفى من العلم بها والعمل بمقتضاها أي فرد في الدولة، بل والمحيط الإنساني، لأنها (القاسم المشترك) في جميع النفوس، والميراث الواحد الذي انحدر إلينا جميعاً من تاريخ جهاد الإنسانية في سبيل الحق والكمال والألفة والوحدة.
فنحن لا يؤكل بعضنا بعضاً في الأسرة، ولا يجامل بعضنا بعضاً في القبيلة والأمة، ولا نتراحم بالمعنى الواسع في الإنسانية، ولا نسعى لترقيها وإسعادها بالعلوم والمعارف إلا