للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تحت تأثير القديم العميق لمواريث هذه الأفكار العلمية التي هي في مبتدأ أمرها فيض من روح الخير في الطبيعة البشرية ومن هدى (الدين) الذي قاد هذا الطبع الخيّر في ظلمات التاريخ، حتى وصل الإنسان إلى عصر رشده وقدرته.

وقد يعتري نفوسنا بعض الانقباض والاستثقال لتلك الأفكار العلمية وما يتابعها من تكليف نظراً لما يلابسها من قيود ومضايقات تقيد حرية الطبع والهوى الذي لا يعرف إلا الانطلاق وإشباع الشهوات، ولكن هذه القيود نفسها لازمة لتحقيق حرية الطبع وحرية الفكر في حدود المعقول؛ لأن القيود التي تفرضها الجماعة في الواقع إنما هي لحفظ الحريات الفردية في حدود خاصة غير مختلطة، ولن تتحقق لأي فرد حريته الضرورية إذا أطلقنا لكل فرد حريته الطبيعية؛ لأن الحريات عندئذ تتصادم وتتنازع، ويتغلب قوىّ واحد يسلب الجميع حرياتهم ويستعبدهم، ويتمتع هو وحده بإشباع هواء الطليق الذي لا حدود له، ويترتب على هذه النتيجة السيئة جميع الحالات السيئة في حياة الاجتماع، والتي كانت طابع عصور الاستبداد والمظالم والجهالات والضياع في مجرى التاريخ.

أما أفكار (الترف الذهني) فمرتبتها بعد تلك، وخاصة في بدء النهضات كما قدمنا؛ ولكن مع الأسف قد ذهب كثير من رواد الفكر والإصلاح في مصر من عصر إسماعيل للآن إلى أن جلبوا لأمتهم الأزهار وتركوا الثمار، وفتنوا بالألوان والأضواء وتركوا جواهر الأشياء.

وكان إدراك (محمد علي) الكبير أصح من إدراكهم، وجهده أقرب إلى طبيعة الأشياء من جهدهم. إذ عنى ببناء أساس النهضة المصرية العمليةعلى الأفكار العلمية قبل أن يعنى بالترف الذهني. فأسرع الخطى بمصر، وبعث الثقة في نفوس أبنائها، والخوف في قلوب أعدائها.

وكذلك فعلت اليابان في بدء نهضتها؛ إذ كانت تكثر من إرسال البعوث إلى المصانع والمعامل الأوربية وتقلل من البعوث النظرية للآداب والفنون والفلسفات.

وكان من نتائج الاتجاه إلى الترف الذهني أن وجدنا في مصر الطبقة المثقفة الأولى طبقة أوربية أو أمريكية بالفكر والسلوك الظاهري وهم مصريون باللون والجنس والانتساب، وقد انفصلوا بأفكارهم وحياتهم عن أمتهم، وضاقوا بالمتخلفين منها ذرعا، ووجدت بينهم وبين السواد الأعظم هوة واسعة سحيقة، وحين يحاولون إصلاحها يكون أول ما يتوجهون

<<  <  ج:
ص:  >  >>