للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[عروس النيل]

(رسالة مهداة إلى روح الأب العظيم عبد السلام مبارك)

للدكتور زكي مبارك

في هذه السنة تخلَّف النيل، وتخوف الناس عواقب الصدود من النهر الوفي المحبوب، فتذكرت ما وقع في أيام سيزوستريس، وتمنيت لو رجعنا إلى عهود الوثنية، فأهدينا إليه صبية، لينشرح فيعود!

وقبل أن أسوق الحديث عن عروس النيل أذكر أشياء من الحياة المصرية قبل إنشاء خزان أسوان، وهي حياة تختلف عن حياة اليوم كل الاختلاف

لم يكن النيل يغمر أرض مصر أكثر من شهرين، ثم ينحسر بعد أن يضيع منه في البحر ما يضيع، ولكنه مع ذلك كان يترك ثروة عظيمة من المياه الجوفية، المياه المخزونة في جوف الأرض، وكانت تلك المياه زاد المصريين إلى أن يعود النيل من جديد

ولهذه الأسباب كانت مصر أقدم أمة أجادت طي الآبار والسواقي، فكان في كل بيت بئر، وفي كل مزرعة ساقية، وكان في منازل المياسير ما يسمى بالصهاريج، وهي أحواض مسحورة تحفظ كميات عظيمة من الماء الزلال

والذين زاروا المعابد الفرعونية يذكرون أن بها آباراً في أكثر الجوانب، وكذلك كان الحال في العهد الإسلامي، فلا تزال في منزل السحيمي بالقاهرة ساقية، وإن طال على هجرها الزمان

وغيبة النيل شهوراً طوالاً من كل سنة لم تكن تؤذي المصريين بعد أن أجادوا على طي الآبار والسواقي، ولو شئت لقلت إن غيبة النيل كانت أداة من أدوات التحصين، فقد كانت المواصلات في العهود القديمة تعتمد على الملاحة، وكان من العسير على من يغزو مصر أن يتجه إلى الجنوب مع تعذر الملاحة في النيل، بسبب الجفاف أيام التحاريق، وخوفاً من عنف التيار أيام الفيضان. . . وهذا في نظري أهم الأسباب في ميل الفراعنة إلى أن تكون عواصمهم بالصعيد، فقد كان لهذا المعنى أمنع من نواصي الجبال

هل قرأتم في أي كتاب أن الفراعنة أجادوا تعبيد الطرق الزراعية؟

لقد تركوا هذا الجانب من النظام عامدين معتمدين، ليكون التوغل في بلادهم باباً من العناء

<<  <  ج:
ص:  >  >>