للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وبمناسبة الآبار أذكر ما شهدت منها بمعبد الكرنك، فقد كان المهندسون يثقبون الأحجار الكبيرة بنسبة معلومة، ثم يضعون حجراً فوق حجر، كما يوضع الطوق فوق الطوق، لصير الآبار في أمان من الاختلال

وكان للآبار في مصر منزلة شعرية تفوق المنزلة النفعية، فقد كان مفهوماً عند الجمهور أن لكل بئر ملائكة تختلف باختلاف المكان، فهذا البئر مسكون بأرواح لطاف، وذاك البئر مسكون بأرواح كثاف، وباختلاف الروح يختلف طعم الماء في الملوحة والعذوبة والكدر والصفاء

وكانت هذه العقيدة ملحوظة في تقدير السواقي من الوجهة الروحية، فلا خطر من نزول هذه الساقية لأنها مسكونة بأرواح خيرة، أما تلك الساقية فمسكونة بأرواح شقية، ألم تسمعوا أنها قتلت فلاناً حين تجاسر على يزولها بالليل؟

ومياه الآبار والسواقي باردة في الصيف وحارة في الشتاء، فما سبب هذه الظاهرة الغريبة؟

يقول العلم إن مياه الآبار والسواقي بعيدة عن التأثر بالأحوال الجوية، فهي لذلك باردة في الصيف وحارة في الشتاء، فهل كان هذا هو الرأي عند أهالي الريف؟

كان الرأي عندهم أن للأرض وجهاً آخر، وجهاً يعاني برد الشتاء حين نعاني حر الصيف، ويعاني حر الصيف حين نعاني برد الشتاء، وكان مفهوماً أن السيخ الذي يفجر العيون في الآبار والسواقي يخرق القبة القائمة بيننا وبين البحار التي تسقي الوجه الثاني من الأرض، وكان ذلك هو السر في أن يختلف الماء بالحرارة والبرودة باختلاف الجو هنا وهناك

هذه الأخيلة الطريفة كانت الزاد لأهل الريف منذ زمن وأزمان، والفلاح المصري شاعر بالفطرة والطبع، فما كانت الدنيا عنده إلا ميدان قتال بين الملائكة والشياطين

إن الأمم لا تعرف الأساطير إلا في عهود الفتوة، فإذا اكتهلت عرفت الحقائق، وسعادة الكهول بالحقائق لا تقاس إلى سعادة الفتيان بالأباطيل

كان أهل الريف سعداء بالجهل، لأنه طوف بهم في آفاق شعرية، فما فائدة العلم الذي يواجه أهله بحقائق أقسى من الجلاميد؟

وهل أسعد العلم كبار أهله حتى يسعد صغار الفلاحين؟

ما القيمة الصحيحة لأن نعرف أن الزهرة مجموعة جراثيم، وهي في نظر الجهل خد

<<  <  ج:
ص:  >  >>