إن الإنسان كلما كبر علمته التجارب أن التقاتل على أكثر الآراء عناء زائل وأمر حائل، وأن ما يدعى تقاتلاً على الحق إنما هو تقاتل على المطامع التي تدعى حقاً. قال أحد الفلاسفة: من المقرر في علم الحساب أن جمع الاثنين والاثنين أربعة ولكن لو كانت هذه المسألة من مسائل الحياة التي تختلف فيها مطامع الناس ومطالبهم ومآربهم لكان بين الناس من يعتقد بإخلاص وحسن نية أن جمع الاثنين والاثنين خمسة أو سبعة أو تسعة حسب ما تقتضيه مطامعهم وفوائدهم. وكل منهم يعتقد بإخلاص أن جمع الاثنين والاثنين إذا كان في رأيه خمسة أو سبعة أو تسعة غير مؤسس على ما تقتضيه المطامع والفوائد الخاصة، وإنما وصل كل منهم في اعتقاده إلى هذه النتيجة بالتخلص من لوازم شخصه وبالفكر النظري الخالص من كل شائب. لكن اتفقوا على أن جمع الاثنين والاثنين أربعة لأن الجمع ليس من الأمور التي تختلف فيها مطالبهم أو فوائدهم. على أن الناس في الحقيقة يختلفون في جمع الاثنين والاثنين عند ما يخرجونه من حيّز المسائل الحسابية النظرية العارية وعندما يلبسونه لباساً من مطالب الحياة وفوائدها واختلاف أوجه النظر فيها حتى تصير المسألة الحسابية البسيطة مقنعة غير ملحوظة في أفكارهم ومطالب وكأنها غير موجودة
أذكر أني قابلت أثناء الحرب العظمى الماضية أحد أفاضل الأجانب ممن أتصف بالعدل وصدق النظر في الأمور والاعتدال في الرأي، وجرى بيننا الحديث عن الحرب والأمم المتقاتلة فيها فأطرى الفرنسيين وذم الألمان، وأوضح أسباب المدح والذم. ثم انقضت الحرب وحاولت فرنسا بعدها بمحالفة الدول الأوربية السيطرة على القوى البرية في أوربا وخشيت إنجلترا أن تخل بالتعادل الدولي. وقابلت صاحبنا فذم الإنجليز ومدح الألمان وقال هم أبناء عمنا، وذكر أسباب المدح والهجاء. ولو قابلته الآن بعد أن عادت إنجلترا وفرنسا إلى الوفاق وبعد أن قويت ألمانيا لعاد إلى رأيه الأول وصاحبنا هذا رجل عدل وإنصاف واعتدال في أمور الحياة، وهو في كل حالة كان يعتقد ما يقول، ويرى أنه الحق ولا حق غيره، وهذا الفاضل ليس ببدع، فهذه سنة الناس فيما يسمونه حقاً يحورونه ويحولونه بإخلاص وحسن نية إلى ما يناسب آمالهم ومطالبهم وأحاسيسهم، وهم لا يشعرون بذلك