للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الذين جنوا علينا]

الذين جنوا علينا. . . فبذروا في طبعنا الحرمان، وغرسوا في قلبنا الألم، وأقاموا حياتنا على دعائم من الشك اليائس، والحيرة المضنية، والفكر الحزين، والحب الغشوم. . . بيت ومدرسة وتقاليد! في أرجاء البيت، تحكم الوالد. . . فمنع النافع، وأجاز الضار؛ وفي حلقة الدرس، أفلس الأستاذ. . . فدرس الغث وترك المفيد، وعنى بالقشور وأهمل اللباب، وفي جحيم البيئة، تسلطت التقاليد. . . ففرضت الحياء، وأكسبت الجبن، والتواكل، وراضتنا على خلق العبيد!

ومن ثم، فلم يكن أمل في ابتكار، ولم يعد رجاء في انتظار، وأرواحنا ظمأى إلى المعرفة حنانة إلى الثقافة، عطشى إلى الجمال، يمتعها البيان العالي، ويشجيها الأسلوب الرصين، ويطر بها اللحن البديع، فتندفع في غير تحفظ، وتسرع في غير اعتدال، لتلحق نركب الفن والأدب، والحب والخير، علها تصيب من ثمار الأذهان مفيداً، ومن قرائح العباقرة جديداً، يؤهلها لأن تدرك وجودها في الحياة. . . وما عاش فاقد المعرفة، وما خلق صدئ المشاعر، وما تمتع بليد الإحساس، وليس جدير بالبقاء، حي لا تختلط ذرات الحب الأسمى، بدمائه وقلبه، وأهازيجه وأفكاره حتى ذلك الحيوان الأعجم!

تلك هي محنة الشباب الأبي، في عصرنا الحر، حرمان رهيب عنيف، يتلاشى مع الزمن، أو يتحطم مع العصيان، تنطلق الغرائز على سجيتها متطرفة، ويستجيب الفرد لشهواته طائعاً، ويجد اللذة في أن يركب رأسه، فلا يسمع من أبويه نصيحة، ولا يطيع لأستاذه رأيا، ثم يدفع الثمن أجراً غالياً، من ثقافته وجهده، ومن صحته وسمعته، وعلى حساب مستقبله وكرامته، ويذهب ضحية بريئة، لأخطاء جسيمة، وتوارثناها فيما خلف لنا الماضي البعيد، من جهالة وخرافة، ومن محن وارزاء! أيها الآباء المشفقون على أبنائكم، والأساتذة المحبون لتلاميذهم. . . لن يقيم هذا العوج، قانون يسنه البرلمان، ولا سلطة يمنحها الناظر، ولا شدة يطبقها الوالد، ولن يصلح الخلل في معاهدنا، والضعف في السنتنا، والغثاثة في ثقافتنا، إلا تربية قويمة، وتنشئة مستقلة، وتعاون بين البيت والمعهد، وثقة بين الوالد والمربي وحرية للأبن أن يعبر عما يريد، وأن يعالج ما يحب!

فإن أبيتم لنا ألا حصار المدرسة، وخناق البيت، وقبر المواهب، ووأد الرغبات، فلا تعذرونا. . . إذا خرجنا إلى الشارع نهتف، أو بقينا في الدرس نصفق، أو أسلمنا فكرنا

<<  <  ج:
ص:  >  >>