كان السيد ماتيو داندولان والسيد روبرت دي بونيير يتجاذبان الأحاديث عندما وجه داندولان نظر صديقه إلى طيور برية قائلا: تذكرني هذه الطيور يا صديقي بحادث مؤلم من حوادث الحرب. . . أنت تعرف أملاكي في ضاحية (كورمي) التي أقيم فيها منذ احتلها البروسيون، وكانت جارتي (جادي) قد اعتراها نوع من الجنون بسبب حوادث مفجعة تتابعت عليها فأثرت فيها تأثيراً عنيفاً، فقد فقدت المسكينة في شهر واحد أباها وزوجها وأبنها الصغير، وكان حديث الولادة، وهكذا عندما يزور الموت منزلا أول مرة، يعود إليه ثانية كأنه يعرف الطريق. . . صرعها الحزن فلزمت الشابة البائسة فراشها وهي تهذي ستة أسابيع كاملة وتوالت عليها أزمات حادة ظلت بعدها خامدة عديمة الحركة، لا تكاد تتناول شيئاً من الطعام إلا بالجهد الشديد، لا يتحرك فيها إلا عيناها، وفي كل مرة حاولوا تغير موضعها كانت تصرخن بشدة كأنما يراد قتلها، فتركت نائمة كما شاءت وتوفرت على خدمتها سيدة عجوز طيبة القلب كانت تقدم لهما الماء من وقت إلى آخر مع قطعة من اللحم البارد تلوكها بين أسنانها. . . ما الذي كان يدور بخلدها المشتت؟ أكانت تحلم بالذين ماتوا؟ لم يعرف ذلك أبداً، لأنها لم تتكلم أبداً، ولأن فكرها المضمحل، ظل عديم الحركة كالماء الراكد. ومرت خمسة عشر عاما وهي على تلك الحال؛ مغلقة النفس، خامدة الحركة. . . جاءت الحرب، وفي الأيام الأولى من ديسمبر، تغلغل البروسيون في كورمي.
وكان الجو باردا والثلج يتساقط، إني أذكر هذا اليوم كأنه الأمس القريب، وكنت ممدداً على كرسي مستطيل بجوار نافذتي مريضاً بداء المفاصل، أسمع وقع أقدامهم الثقيلة وخطواتهم الرتيبة، وأراهم من النافذة صفوفا لا نهاية لها يبدون في حركاتهم المنتظمة كأنهم دمى تتحرك بخيوط مشدودة، وقد أمر القائد بتوزيع الرجال على سكان القرية فكان نصيبي منهم سبعة عشر رجلا ونصيب جارتي البائسة اثنا عشر رجلا، بينهم القائد وهو رجل عسكري