أهل رومةَ الأولون قومٌ بناهم الله بنية وثيقة، فنشأوا عظامَ التجاليد أشداء العضل أقوياء العصب، يعطون البهيمية من نفوسهم، أكثر مما يعطون الإنسانية من قلوبهم. ووثاقة البنية وسورة الهوى تحركان في المرء شهوة الغلب وحب الأثرة؛ فبغى الرومان على الناس بحدة القلب وبأس الحديد، فملكوا أمم البحر المتوسط ملك الرقيق، واستعانوا على تدبير هذا الملك العظيم بالسيف واللسان والقانون، فتهيأت لهم بذلك مَلَكة أصيلة في الحرب والخطابة والتشريع، وحرمتهم جِبلتهم فنون النفس الرفيعة فكانوا في الأدب والفلسفة والفن حَميلةً على الإغريق. فلما أذن الله لدولتهم أن تدول سلّط عليهم الترف والفسوق فتدفقوا في اللهو و (الأرجي) حتى ترهل من لحومهم ما اكتنز، وهش من عظامهم ما صلب، وانسرق من قواهم ما اشتد، وذهب بذهاب سلطانهم ما شرعوا من قوانين وسنوا من نظم وألقوا من خطب؛ وأصبحوا لا يد تطول ولا لسان يقول، ولا فكرة تجول؛ ثم بادوا ولم يتركوا لأخلافهم على تعاقب القرون إلا ما يُعقبه السلطان الزائل من الغرور والتبجح والفيْش، وإلا ما يورثه اللهو الباطل من الغناء والموسيقى والرقص
وأهل أثينا الأقدمون قوم صاغهم الله صيغة حسنة، فكانوا مثلاً للكمال الممكن في الإنسان الأعلى. سمت فيهم ملكات العقل والقلب واللسان والجسم سمواً لا شبيه له في شعوب الأرض، فأبدعوا في نواحي الفكر والشعور والبيان ما ربأوا به أن يكون من صنع الإنس فنسبوه إلى أرباب من خلق أنفسهم. ثم تعاقبت على المدن الإغريقية أطوار الحياة العقلية للجنس البشري تامة غير مُخدَجة: فمن الغناء الفردي في المعابد إلى التمثيل الجماعي في المسارح، ومن الحياة الأبوية إلى الحياة النيابية، ومن شعبذة الكاهن إلى فلسفة أرسطو؛ ولم يبد في سائر الأمم إلا ظواهر لبعض هذه الأطوار تقل أو تكثر على قدر نصيبها من كمال الخلق، ثم تضعف أو تقوى على نسبة حظها من محاكاة الإغريق. فكأنما هذه البقعة وأهلها لِما جمعوا من شتيت المزايا صورة مصغرة لأمم العالم، ونسخة لتاريخ الإنسان
فلما أصابهم داء الأمم فني مُلكهم في ملكوت الرومان، ولكنهم انبثوا في عقول الناس وحضارات الأمم وثقافات الشعوب، فكراً لا يأفن، وفناً لا يبلى، وأدباً لا يقدُم، وفلسفة لا تبطل، ونظاماً لا يفسد، وعلماً لا يذهب؛ فكان الفكر اليوناني أساساً قائماً لكل حضارة، ولقاحاً مثمراً لكل ثقافة