يعيش جارنا طاهر أفندي الكاشف بعد خروجه إلى المعاش عيشة الصوفي المتبتل، يتعبد النهار، ويتهجد الليل، ويُزَجّي ما بقي من فراغه بمطالعة الصحف ومتابعة السياسة ومراقبة الحوادث. وقد آتاه الله ألمعيّة عجيبة يستشف بها حجاب الغيب كأنه رسول ينطق عن الوحي؛ فلا يتظنن إلا تحقق ظنه، ولا يتكهن إلا وقعت كَهانته. وكثيراً ما يرى في المنام أموراً لا يلبث أن يراها في اليقظة. وربما أخذته حال من الذهول عن الوجود الخارجي تنفذ بصيرته فيها إلى غيابة المستقبل، فيكون كما يقول أشبه بالصبي الذي ينظر في فنجال (المندل) يرى ما لا يُرى، ويَسمع ما لا يُسمع!
قص علي في صباح هذا النيروز رؤيا من رُؤَى يقظته لم أجد كلاماً خيراً منها أجعله مقدمة لهذا العدد، وفاتحة لهذا العام. قال: كنت في الساعة التي تفرق بين عام وعام في تقويم الزمن، وتفصل بين فصل وفصل في رواية الحياة، قائماً في غرفتي أصلي ركعتين لله توديعاً لعام قضى، واستقبالاً لعام أهل. . . وكان الجو المتماطر القارُّ قد حبس الناس في الدور فلا أسمع في الشوارع المحيطة صوتاً ولا حركة؛ فوجدت نفسي من جلال الساعة ورهبة الوحدة وعمق السكون، كأنما تنسرح من ثوبها المادي وتندمج في الروح العام والشعور المطلق، ثم تغيب في طوايا المجهول، وتصفَحُ كتاب الغد ورقة بعد ورقة، حنى تقع على عنوان من الدم معقودٍ على ما سجلته يد الأقدار من قضايا الدول ومصاير الشعوب، فتحدّق إلى العنوان، وتدقق في السطور. ثم خيِّل إليَّ وأنا مغمض العينين أني أرى نقطة مربعة من النور تنداح في الحماليق وتنبسط حتى تصير في مثل الصحيفة الكبيرة، وأني قرأت في هذه الصحيفة كلاماً كنت في أكثر الأيام أفكر في بعضه، وقد وعته ذاكرتي حتى لأستطيع أن أؤديه إليك الآن على سرده. فقلت له أعد عليَّ بعضه إن شئت. فقال: اجعل بالك إليّ. ثم انطلق يتلو عن لوح قلبه:
(قال جون بول الماكر لصديقه العم سام بعد أن غسلا أيديهما من دم التنّين الألماني وحمدا الله على السلامة: ما هذا الدب الروسي الذي لجّ في الخلاف وأصرّ على العناد حتى كدر بجموحه صفو السلام، وزور بطموحه معنى النصر؟ ألسنا بما جاهدنا في سبيل الحرية