للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[مصطفى كامل]

بعد ثلث قرن

بمناسبة إزاحة الستار عن تمثاله

كل شيء في مصر ينسى بعد حين كما قال شوقي وليست مصر بدعاً من الأمم في ذلك. فإن الرجل أو العمل لا ينطبع ذكره في الذهن إلا إذا كان ندى الصوت قوي الأثر. ومصر في عهدها القريب إنما كانت تجري في خلاء من التاريخ لا يكاد يظهر فيه إلا فقاعة تنفجر أو ومضة تنطفئ. وليس لهذه أو تلك من الأثر ما يملأ الشعور ويشغل الذاكرة

على أن السائر في الصحراء مهما ضعف وعيه واشتدت غفلته لا بد أن يذكر المنار الذي دله على الطريق، والواحة التي أعادته إلى الحياة. وهيهات أن تعرض القلوب عن ذكر محمد علي ومصطفى كامل وسعد. وإذا جاز للزمن العابث أن ينال من رجل الدولة أو بطل الثورة فإن مصطفى كاملاً يظل على تراخي الحقب أنوط بالقلب وأعلق بالذاكرة. ذلك لأن زعامته كانت أشبه بالنبوة في تهيئة الفطرة وثبات العقيدة وعصمة النفس واختيار القدر. وهو الزعيم الوحيد الذي لم تلده الظروف، ولم تبعثه المطامع: لم تلده الظروف لأن مصر كانت في إبان حداثته قد استأمنت إلى الجهل والاحتلال فنامت في ظلها نومة الضاجع الأبله. وكانت دعوة الأفغاني قد جمعت من ومضات الأذهان النيرة شعلة أضاءت جانب الطريق فسلكه العرابيون؛ ولكنهم لم يكادوا يبعدون حتى أدركهم الظلام في التل الكبير. فلا يصح في العقل إذن أن نقول إن مصطفى كان أثراً للأفغاني وعرابي، كما نقول أن سعداً بعد عبقريته كان أثراً لهؤلاء الثلاثة. إنما أرسل المصطفى على فترة من رسل الوطنية. وكان إرهاصة وهو في المدرسة الثانوية أن الوزير علي مبارك باشا زار مدرسته يوماً فسأله فيمن سأل من التلاميذ: ماذا اعتزم أن يعمل بعد الشهادة؟ فأجابه مصطفى اليافع في خطاب طويل: (إن أرفع الرجال شأناً من يحرر بلاده. وسأكون أنا ذلك المحرر الذي يكتب ويخطب حتى ترفع الأغلال عن عنق مصر). وكان إرهاصه وهو في مدرسة الحقوق أن أنشأ مجلة سماها (المدرسة) أشرقت فيها نفسه الكريمة إشراقة النفس الزعيمة، فتهافت على ضوئه طلاب المدارس العليا يؤيدون دعوته ويرددون كلمته ويترسمون خطاه، حتى نال إجازة الحقوق ففرغ لرسالته وخلص لوطنه. وحينئذ رأيناه يكتب إلى أمه الروحية مدام

<<  <  ج:
ص:  >  >>