في الضحى الأكبر من يوم الخميس الماضي افتتح مجمع اللغة العربية الملكي دورته الثالثة في حفل متواضع من رجال العلم والأدب؛ فألقى الأستاذ الرئيس خطبة مجمعة، أجمل فيها ما عالج المجمع من المسائل اللغوية في دورته الثانية، وأشار إلى وفوده عن المجمع العربي إلى عيد المجمع الفرنسي، وإلقائه أول الناس خطاب التهنئة (باسم أحدث المجامع نشأة في أقدم بلاد العالم حضارة)؛ ونوه بهدية الأستاذ فيشر إلى المجمع وهي جزازات جمع فيها جمهرة الموثوق بصحته من متداول الكلمات في القرن الأخير للجاهلية، والقرون الثلاثة الأولى في الإسلام، واستهلك في جمعها وترتيبها نيفاً وأربعين عاماً؛ ثم ألم إمامة يسيرة ببعض ما وجه من نقد إلى خطة المجمع.
وقام من بعده الأستاذ حسين والي فألقى محاضرة سابغة سائغة أدلى فيها بحجيج المجمع في القرارات السبعة التي أصدرها في عامه الثاني. ثم نهض على أثره الأستاذ محمد كرد علي بك فدافع عن حداثة المجمع وأشاد بفضل جلالة المليك. وجاء دور الأستاذ جب فعقب على بعض ما قال الخطباء بكلمة بارعة أداها عن ظهر قلبه. ثم ختم الأستاذ الجارم هذا الحفل الوقور بقصيدة من حر الكلام سلسل فيها أطوار العرب وأدوار اللغة، وأهاب (بعصبة الخير) أن ينشطوا لتجديد الفصحى:
فالدهر يسرع والأيام معجلة ... ونحن لم ندر غير الوخد والخبب
كانت حفلة افتتاح هذه الدورة نفثة من روح المجمع، شاع فيها سره، وسطع في فورتها ريحه، فكان اهتمامها برضى القاموس أبلغ من اهتمامها بذوق السامع؛ وكأني رأيت يومئذ في بعض العيون بوادر الدمع رأفة بأولئك السيدات اللائى تظاهرن بالإصغاء إلى حقائق اللغة ودقائق الصرف وهن من الضجر على حال لا تسر! وهذه الحال نفسها ملحوظة بين المجمع والمجتمع في وضع الكلمات للشؤون العامة، فإن من الأعضاء من يسرف في بعث الحوشي الممات، أو الغريب المتنافر، ليحل من لغة الجمهور محل الدخيل الذي لا يثقل في الآذان ولا يعسر على اللسان ولا ينبو على أوزان اللغة، فيضع الجماز للترام، والنهبوع لليخت، والعنقاش للبائع الجوال، والكشَّاءة للكماشة، والضريم للبنزين، والطربال للعمارة!