هذا المجلس الحافل بأسباب الأنس والمسرة، الحالي بالزهر والريحان، وبالقيان والندمان على الربوة المعشبة الظليلة في أعلى (اليرموك) - قد حان أن يطوى بساطه فليس فيه بعد اليوم أنيس ولا سامر. . .
وهذه الأباريق في أيدي السقاة المرد يطوفون بها على ندمان الملك ليفرغوا في كاس كل نديم جرعة من خمر وفي قلبه لذعة من جمر - يوشك أن يفرغ ما فيها من الشراب وتفرغ منها أيدي السقاة والندمان. . .
وهذه الأقداح المترعة في أيدي القوم تتلامس حافاتها كان رنينها ضحكات غانيات سكارى - قد حان أن تتحطم ويراق ما فيها من الشراب فتنتشى الأرض ويصحو السكارى. . .
وهذه النمارق المصفوفة والزرابي المبثوثة والكراسي المنضودة عن يمين صاحب العرش وشماله - يوشك أن ينتثر عقدها ويشت جمعها، فليس في أعلى (اليرموك) بعد اليوم عرش ولا تاج ولا صاحب سلطان، وتغدو (مملكة غسان) ذكرى، ويخمل ذكر (جبلة) وآباء جبلة من ملوك قحطان في الشام. . .
كذلك كان (جبلة بن الأيهم) ملك غسان يحدث نفسه وأصحابه من حوله يخالسونه نظرات خاشعة فيها قلق وريبة، قد جمدت في أيديهم أقداح الشراب فلا تدنوا منها شفة، وأعولت في آذانهم رنات المثاني والعيدان فلا تهتز لها نفس هزة طرب، وعبقت أرواح العطر والبخور في جو المجلس خانقة، فلا يكاد ذو نفس من ندامى الملك يملأ رئتيه. . .
أكان قلقهم وانقباضهم لأنهم يعلمون ما تجيش به نفس الملك في تلك اللحظة من الخواطر السود، أم كان ذلك لأنهم لا يعلمون. . .؟
وكانت جارية عاطفة على عودها في صدر المجلس تداعب أوتاره بأنامل رخصة وهي تغني من شعر حسان:
لله درُّ عصابة نادمتهم ... يوماً يحلُق في الزمان الأول
يسقون من ورد البريص عليهمو ... بَرَدى يصفِّق بالرحيق السلسل