حين مددت يدي أمس إلى ساعي البريد لم أدر سر هذه الخفقة العنيفة التي اضطرمت بها جوانحي فانتفضت معها انتفاضة المذعور، ووجدت في نفسي ألواناً من الأحاسيس لم أتمالك أن أسكن إليها، أو أطمئن معها، أو أدرك سر التأثير فيها. . . فلقد فاضت بين جنبي لاهبة مستعرة، فإذا أنا أصلى بلهبها، وأكوى بلفحها، وإذا كياني كله جمرة متقدة في أتون من اللظى والنار
ولم يكن ذلك من عادتي في شيء. . . لشد ما كنت أضحك للساعي وأطرب له. . . ولشد ما كنت ألقاه أقبل عليه وأدنو منه. . . لقد كنت ألقاه بالأمل الطروب الذي ينساب ابتسامة عريضة، وتحية مرحة، ولقاء حلواً. . . وكنت أرقب موعده، وانتظر مقدمه، وأعد له الساعات؛ فليس احب ألي من الساعة التي تصافح فيها يداي هذه (الرسائل)، أنسم فيها عبير الوطن، وأنعم بدنيا الاهل، وتتسق لي الذكريات اللطاف، وأعيش في هذا العالم الندي: نشوان بالرؤى الحالمة، ثملاً بالأماني الناعمات.
ولكن كان لي في أمس شأن آخر. . . لم تتفتح شفتاي عن التحية الحلوة، ولم تنطلق في دنياي البسمة الطروب، ولم تشع في وجهي قسمات الأمل. كان كل شيء في نفسي يهتز ويضطرب كأنما كان ينشر في السماء الصافية أمواه السحاب وأمواج الضباب، وكأنما يبعث في العالم الهادئ الآهات الصاخبة والنفثات الغاضبة. وكانت تطيف بي طوائف كابية معتمة لا أتبين معها وجه النور، ولا ظلمة الغسق؛ ولا أدري لها عبق الأمل أو مرارة الواقعات، ولا أحس أهي نذر الشر أو بشارات الخير!
وحين أخذت أنزع هذا الغلاف الرقيق لم أدر أين أبتدأ منه. كنت كلما أمسكت بطرف منه توليت عنه إلى طرف آخر؛ فإذا الكتاب يضطرب بين يدي، وإذا أنا أدور معه كالخابط في