كانت رسالة سعد كما رأيت (الدفاع عن الحق) في زمن خذل الحقَّ فانتهى فيه الحكم إلى الأثرة، وشعب جهل الحق فجرى به الأمر على الباطل. وكانت عُدة هذا المحامي المِدْره لذلك الدفاع البلاغة والمنطق والقانون: فالبلاغة للجمهور، والمنطق للخصوم، والقانون للحكومة؛ ولست أرمي بذلك إلى تقسيم كلام الزعيم إلى التأثير المحض، والإقناع المطلق، والتطبيق المجرد، فإن خطبته في كل موضع وفي أي موضوع لا تخلو من هذه العناصر الثلاثة، وإنما يظهر بعضها على بعض حين يقتضي المقام ذلك الظهور؛ فهو يوجه التأثير بالفكرة إلى الذهن إذا هاجم الإنكار والجهل، وبالعاطفة إلى النفس إذا عالج الخمود والغفلة، وبالنصوص إلى الذاكرة إذا عارض القوة والسلطة. ولم ير التاريخ المصري بل الشرقي قبل سعد خطيباً بليل اللسان، نديَّ الصوت، طلق البديهة، دامغ الحجة، حافل الخاطر، رائع البيان، أنيق اللهجة، حسن السمت، يزاوج بين المنطق والشعر، ويعاقب بين الإقناع والإمتاع، ويراوح بين الجد والهزل، ويتصرف في فنون القول تصرف الشاعر برقة الأسلوب، والفيلسوف بدقة الفكر، والموسيقي بجمال الإيقاع؛ وكل ذلك في هالة من الشخصية المهيمنة الجذابة، تساعد بلاغة اللسان والعين واليد بشعاع إلهي باهر، ينفذ إلى النفوس المتكبرة فتَتَّضع، وإلى الأذهان المكابرة فتقتنع، وإلى القلوب اللينة فتنماع
كان سعد رجل جلاد وجدل؛ تمرس منذ الحداثة بشدائد الحياة ومكاره العمل، وراض نفسه منذ الدراسة على أدب اللسان والقلم، وتنفّس به العمر في ميادين الجهاد في الحق، فتكلمت عبقريته الموهوبة بالمعرفة، وتثقفت بالتجربة، وتقوت بالمران، حتى كان منه ذلك الخطيب المرتجل الذي يَهْضب بالكلام أربع ساعات متواليات لا يتلكأ، ولا يتلجلج، ولا يتكثر باللغو، ولا يستعين بالتكرار، ولا يطرد نشاط السامع؛ وكأنما كانت الخطابة لطول ما زاولها تصدر عنه كما يصدر الفعل عن الطبع الملازم والعادة المستحكمة؛ فالفكر عميق من غير إعنات، والأسلوب رشيق من غير تكلف، واللفظ متخير من غير قصد، والمعاني متساوقة تختلف باختلاف العقول والميول والحال، فتقع من قلوب سامعيها العشرين ألفاً موقع الأنداء من جفاف الأرض: هذا بالصورة الآخذة، وذاك بالفكرة النافذة، وذلك بالحجة