أكثر ما في خطب الخطباء حنجرة وإلقاء وحركة؛ فإذا قرأت بعد ذلك ما سمعت تبينت فيه الكلام الزائف والرأي المجازف والأسلوب المشوش؛ أما سعد فتسمعه وتقرأه فلا تجد بين الحالين إلا الفرق بين الخطيب الماثل بشخصه، والكاتب الماثل بروحه؛ ذلك لأنه يخطب كما يكتب ويكتب كما يخطب، متوخياً في الأمرين براعة التفكير، وبلاغة الأداء، وجمال الأخيلة، وصحة الأقيسة، وقوة الأدلة
كان سعد برد الله ثراه وخلد ذكراه يحب الكلام كما يحب العمل، وينشط بالجلاد كما ينشط بالجدل، ويطرب لِلَفتة الذهن كما يطرب لقهر الخصومة، ويقدس المنطق حتى ليأخذ به من نفسه لعدوه، ويقوى بالكفاح حتى ليركبه المرض والوهن إذا ما استجمَّ
دخلت ذات يوم بيت الأمة في وفد من قومي نجدد الثقة بالرئيس حين انصدع من حوله الوفد، وائتمرت به الحكومة، وتخشَّنَ عليه الإنجليز، ودس له المراءون الغدر في الملق، ولم يبق معه إلا اعتداده بنفسه، واعتقاده بحقه، وثقة الشعب الأعزل به؛ وكان في ذلك اليوم عليلاً لا يخرج إلى أحد ولا يدخل عليه أحد، ولكن الوفد المسافر المشوق يأبى في إلحاح وإصرار إلا أن يرى رئيسه وإن لم ينزل، ويسمعه رأيه وإن لم يتكلم؛ فنزل الزعيم النبيل مدثَّراً بلفائف المرض يتحامل على نفسه ويتهالك على مقعده؛ وكان فناء الدار وشارع الدار وحجرات الدار قد انفجرت انفجار عرفات بالدعاء والتفدية حين لاح وجهه الشاحب من العلة
قدَّم وفدنا إلى الرئيس عرائض الثقة في غلاف حريري جميل، ثم تعاقبت الخطب على الأسماع ما بين سمين وهزيل، والخطيب المعجز جالس إلى مكتبه يصغي إلى كل خطيب ويصفق لكل خطبة، حتى انتهى القوم ووقف هو يقول كلمة الشكر، فبدأها بصوت خافت متهافت، ثم ما لبث أن شبا وجهه، واستقام عوده، وارتفع صوته، وتنوعت لهجته بالنبرات المؤثرة، وتحركت يده الإشارات المبينة، ثم تدفق تدفق السيل الهادر ساعة كاملة هتك فيها أستار الغلول والخديعة عن سياسة الحكومة والخصوم، فما سمع الناس كاليوم خطيباً ينطق عن الوحي، وأسلوباً يتسامى للإعجاز، وصوتاً يمتزج رنينه الفضي بأجزاء النفس، وخطبة لا يظفر بمثلها البيانيون نموذجاً كاملاً للفن!